مقالات عامة

حوارات عبر البريد الإلكتروني

يوسف أبو لوز

قرأت في الآونة الأخيرة حوارات ثقافية صحفية جرت عبر البريد الإلكتروني طابعها العام على أهميتها بالطبع «البرود» وشيء من «الاستجواب» إن أمكن القول، فضلاً عن أن مثل هذه الحوارات تفتقر إلى روح الحوار، والمقصود بهذه الروح الجدل وحتى السجال الذي يمكن أن يجري بين المحاور والمتحاور معه إن كان شاعراً أو روائياً أو مشتغلاً في العمل الثقافي بشكل عام، وفوق ذلك يفتقر الحوار الإلكتروني إلى قيمة صحفية مهمة، وهي، استنتاج السؤال من الجواب، أو استنتاج سؤال من سؤال؛ وذلك لا يحدث إلا إذا كان الحوار وجهاً لوجه، وآلة التسجيل لا تكف عن الدوران.
الكثير من الصحفيين يعتبرون الحوار المباشر بكل ما يطرأ خلاله من أفكار ومداخلات وذاكرة نشطة حواراً مهنياً أو حرفياً، وبعض الصحفيين لا تفارقه آلة التسجيل والكاميرا، وقبل ذلك يكون قد وضع مجرد رؤوس أقلام صغيرة هي مفاتيح لأبواب كثيرة تنفتح خلال الكلام.
البعض من الصحفيين لا يستغني عن الورق، وكان ذلك في بدايات نشوء الصحف؛ بل إلى اليوم لا تعدم أن ترى صحفياً يسأل ويكتب بيد سريعة وخط أسرع؛ لكن المذهل حقاً هو الصحفي الذي لا يعرف آلة التسجيل، ولا يعرف الورق والقلم.. ذاكرته من حديد، فهو يصغي فقط، ويخزن كل ما يسمعه في دماغه.. وحين يعود إلى مكتبه يفرغ على الورق مادة رشيقة دقيقة المعلومات بحبكة صحيفة موزونة هذا النوع الأخير من صناع الحوار الصحفي نادرون، وفوق الندرة يستندون دائماً إلى ثقة عالية بالنفس، ويعرفون جيداً تاريخ الشخصية الثقافية موضوع الحوار وقيمتها الأدبية وحجم موقعها في الوسط الثقافي.
هذه كلها تقاليد صحفية تتصل بالحوار أو فن الحوار.. سواءً عبر المسجلة أو الورق أو الذاكرة كانت من أساسيات المهنة، ولكن اليوم، تغير الحال، وأصبح عبئاً على الصحفي أن يحمل حقيبة كتف فيها مسجل وورق وأقلام، بل أكثر من ذلك هُجرَ القلم هجراناً تاماً، وحتى الكتّاب والشعراء لا يحملون أقلاماً، فهو يكتب على شاشة الموبايل، وهو في الواقع لا يكتب بل «يطبع» والعملية الآلية التي تجري بواسطة الكمبيوتر هي طباعة وقد انتفت عنها نهائياً صفة الكتابة، أما المسجلة الصحفية فقد اختفت هي الأخرى أو هي في طريقها إلى الاختفاء أمام التسجيل الصوتي على الهاتف النقال.
لنقل إنها قوانين الحياة وقوانين الزمن أن يغيب القلم، ويغيب الورق عن حقيبة الصحفي، ولكن، كيف نفهم غياب روح الحوارات «الطيارة» عبر البريد الإلكتروني؟؟.. لا المحاور ولا المتحاور يريان بعضهما بعضاً.. لا صوت بشرياً ولا صورة آدمية أمامك. فقط فضاء كمبيوتري جامد، وكلام صامت متبادل عبر الأزرار.
ودائماً عودة إلى القلم والورق والكتابة.. ومعاً هي الأصل وهي الرّوح.. أما الطباعة فهي فعل آلي كمبيوتري.. وصحيح أن الحروف منضدة ونظيفة، لكنها بلا رسم ولا خط ولا تشكيل.

yabolouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى