مقالات عامة

خميسيّات اللهجات: التونسية

عبد اللطيف الزبيدي

هل تعرف الشعوب ماذا وراء لهجاتها؟ مبحث كله إمتاع ومؤانسة. تاريخ ولغات وسلالات (إثنيات) متفاعلة، وتحوّلات سياسيّة، دينيّة، عسكريّة، ثقافيّة وتجاريّة، تترك بصماتها اللغوية، التي حدّها الأدنى مفردات مضافة، وتتّسع آثارها أحياناً فتطبع نحو العاميّة وصرفها. للأسف يُعدّ هذا الميدان، أفقر البحوث في الدراسات.
لماذا تتكلم الشعوب العربية لهجاتها العاميّة على النحو الذي نسمعه اليوم؟ نقول في تونس: «الطبّال يبدا بباب داره». سينطلق القلم في هذه الخميسيات من «إفريقيّة» اسمها قديماً. يقيناً يُستبعد أن يوجد تونسيّون يحيطون بأسرار أهمّ خصائص اللهجة والنبرات المميّزة. الإلمام بالمفردات وأصولها جزء ضئيل من المحور، وفي تونس عدد من الخبراء بالعاميّة، مثل الراحليْن عبدالعزيز العروي والطاهر الخميري.
قبل تشييد قرطاج (قُرْط حَدَشْت بالآراميّة:المدينة الحديثة)، كان سكان تونس أمازيغ
(= جبليّ بالأمازيغيّة). بُناتها كانوا كنعانيين (تسميتهم الفينيقيين خطأ=الحُمر باليونانيّة)، وهم مخترعو كتابة الحروف الأبجديّة. لكنهم كانوا يتكلمون الآراميّة التي كانت السائدة. سيطر الكنعانيون على الشمال الإفريقيّ، وسجالات صراعهم مع الإمبراطوريّة الرومانية طويلة ليس هنا بحثها، إلى أن جاء الفتح الإسلاميّ باللغة العربيّة، التي طال بها العهد إلى أن استقرّت وفرضت وجودها. كان انتشار الدين أيسر من شموليّة اللسان العربيّ. حتى 1960، ظلت مناطق، مثل «السَّنَد»(ولاية قفصة) تتحدث الأمازيغيّة.
استطاعت الآراميّة، التي جلبها الكنعانيون، التأثير في أختها العربية في عمق العاميّة. التونسيّ يستخدم نون الجمع من المضارع المتكلم المفرد (نشرب، نكتب)، وهذه آرامية. «قاعد نجري، قاعد نسبح»، اللامنطقيّ منطقيّ لأنها «كاد» الآراميّة أي في صدد، مثل الإنجليزية «رانينج، سويمينج». الفعل الثلاثيّ يبدأ في تونس بساكن ويقف على ساكن عنيف: ضْربْ، هْربْ.الآرامية هكذا. الأسماء أيضاً: البْحرْ، الشْهرّ، القْمرْ، التْمرْ. الكلمات الآراميّة كثيرة: «هيّا بَنّك» (تعال اجلس). آش طيّبتِ؟ ماذا أعددت من طعام؟ «طيّب» أي أعدّ في الآراميّة. «لَباس» أصلها لَباشا وليست لا بأس. في لعبة الورق، من يمسك بالحساب يقال عنه «يُرشم» أي يرسم، آرامية (تبادل السين والشين). «يزّي عاد» أي كفى إذاً، لا تستعمل اليوم إلاّ في العراق وبكثرة. عند اللقاء «عالسلامة» من الآراميّة «ع شلامه»، وفي الوداع «بالسلامة»، المحذوف واضح. الأصل «فوش بشلامة» «حرفياً» ابق أو ابقوا بالسلامة، وتترجم نصاً في تونس.
في اللهجة التونسية المئات من المفردات الآراميّة، إذا أراد القارئ الاستزادة، فأطرف القواميس على الشبكة: «البراهين الحسّيّة، على تقارض السريانية والعربية» لأغناطيوس يعقوب الثالث، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، عضو مجمع اللغة العربية، دمشق. أمّا الأمازيغيّة واللغة المصرية القديمة في اللهجة التونسيّة، فتحتاجان إلى عمود آخر بعد جولات في لهجات الشعوب العربية.
لزوم ما يلزم: النتيجة اللسانيّة: اللهجات اليوم تكشف لنا تاريخ العلاقات الحضاريّة البعيدة بين الشعوب، بينما نظرتنا إليها ضيّقة كسمّ الخياط.

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى