ردّ الهديّة لإيمانويل ماكرون !
د. نسيم الخوري
من باريس يبدو العنف وكأنّه يتثاءب في أوطان ما يسمى «الربيع العربي»، المشغولة بإزالة ركام الحروب والتطلّع نحو المدن وتنظيف زجاج ناطحات السحاب المنتظرة، أكثر من تنظيف بقايا النفوس المثقلة بالمآسي والكوارث.
تبدو فرنسا مخزناً جديداً غير مألوف للفرنسيين، كما للطافشين من الدنيا المعذّبة. مصهر عالمي لهضم الثقافات اللامنتهية، لكن يزدحم على بابه أهل القلق والعوز والنزوح والنزول المتنامي نحو العصب والتعصّب والعنصرية، وكأنّ الدول العظمى صارت تشابه الصغرى. باختصار تراجع ملامح الدولة القويّة العظمى التي نستظلّ بها نحن أهل الجنوب المتوسّطي.
بلغ الاحتقان الانفجار المفاجئ عبر جماعات كبيرة وفرق «السترات الصفراء» في مشاهد تكسير وتخريب قلب فرنسا أذهلت أوروبا والعين العالمية، حيث العاصمة الأكثر حضارةً في «كوزموبوليتها» أي بوصفها دولة جامعة للأجناس المتنوّعة. ربّما لأننا ألفناها ونستشعرها، أو لأنّ الحروب الكثيرة في بلادنا علّمتنا استشراف حصول الخرائب وملامحها قبل حدوثها. صحيح أنّ السبب المباشر كان رفع فرنسا الضرائب على البنزين والديزل، تشجيعاً لاستخدام وسائل نقل أقلّ ضرراً على البيئة، لكن الأصحّ أنّ مشاهد ردّة الفعل، وخصوصاً في جادة الشانزيليزيه، جاءت مؤلمة وثقيلة، ولها أبعادها التي لا مزاح فيها، بعدما سلخت الحرائق عن وجه فرنسا وفوق كتفيها أوروبا بالتعاون مع ألمانيا أموراً مهمّة:
1- سلخ توقيت «عنف» أصحاب «السترات الصفراء» عن فرنسا أحد أوشحتها العلمانية الرائعة المسكونة بتربّص اليمين المتشدّد الباحث عن قصور الكاثوليكية والكنائس/ المتاحف حتّى في الانشغال الرسمي الباذخ بزينة عيد الميلاد وبهجته، والذي غالباً ما تتسابق عواصم العالم في إعلانه قبل حلوله، كأفضل مناسبة دينية وسياسية زاهية مع تعاقب 2018 سنة. هذا العام كان مختلفاً، لا حكمة بشدّ رباطه بتدفّق اللاجئين إلى أوروبا. كان لا يصدّق أنّ بابا نويل سيهدي لفرنسا هذه الهديّة القويّة بعيد ميلاد المخلّص. ربّما يهديها لماكرون، وقد نسي قبل فترة وجيزة من زيارته لجويانا الفرنسية ( 27 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2017) اندلاع الشغب في استقباله بسبب الحرمان والافتقار إلى الرعاية الصحية الاجتماعية في تلك الأراضي النائية، ثمّ اندلعت هناك أعمال شغب أخرى بعدما رفض ماكرون إرسال مساعدات إضافية، قائلاً: «أنا لست الأب كريسماس أي بابا نويل».
2- سلخت التظاهرات الفرنسية من الأذهان المشهد الأوّل الجميل الذي أسّس فيه الشاب الفرنسي إيمانويل ماكرون حزبه الخاص «إلى الأمام» (إبريل/ نيسان 2016)، على صورته الوسطيّة المتماوجة في الليبرالية الاجتماعية والديمقراطية الاشتراكية، ماسحاً بها علامات الأحزاب العريقة التي أوصلت أمريكا إلى درجة وصم أوروبا بالقارة العجوز التي شاعت على الألسن.
سلخت مشاهد العنف من رأس ماكرون الفترة القياسية التي خرق خلالها، كما الصاروخ، الحواجز كلّها صعوداً نحو قصر الإيليزيه رئيساً شاباً ثامناً للجمهورية الخامسة الفرنسية( 7 أيّار/مايو 2017). وسلخت بذلك مشاهد البهجة العالمية عند انتخابه على شاشات العالم الفضائيّة، عندما أمر بطي المظلاّت التي كان مرافقوه يلاحقونه بها مع زعماء أوروبا كي لا يبلّلهم المطر.
3- يتقلّب الرجل الفرنسي في عرشه حتماً، وهو عائد من القمة الأوروبية في بروكسل ( 25/11/2018)، حيث تفاقم الأعباء الاقتصادية والأزمات الاجتماعية المفتوحة على أوروباً المربكة بأثقالها من مختلف الجهات الداخلية والخارجية. تمّ التصديق على اتّفاق ينظّم خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي، لكنّه تكتّل يهتزّ وبحاجة إلى إعادة التأسيس دفعاً للتفكيك والتخطيط غير المرن من بعض الدول الأوروبية، وفي رأسها إيطاليا للمطالبة بفكّ لحام الوحدة الأوروبية، تيمّناً بالخطوة البريطانية التي ما زالت معقّدة. قامت تلك الوحدة على أكتاف الفحم الحجري في معاهدة ماستريخت .
4- قد يصعب التفريق بين مشاهد العنف المختلطة بالمقدّس منذ عبسة قابيل في وجه أخيه هابيل وقتله بحجر. ارتسمت خطوط القنبلة الذريّة الأولى فوق جبين قابيل الغاضب، حيث ينهض العنف وتظهر قدسيته ويتطوّر ويتهذّب ثم يتراجع وينام عبر المجتمعات والمجموعات. لكنّه لا يختفي. حذار.هل نمحو القلق العالمي الذي تركته وتتركه تصريحات الرئيسين الأمريكي والروسي النووية؟