رسائل حب
د. حسن مدن
أغنية روسية قديمة، وجميلة، تقول: «في الرسائل لا يقال كل شيء»، ومغزى هذا أن الرسالة مهما طالت لا تستطيع أن تحيط بكل ما نريد قوله أو تبليغه للمرسلة إليه، خاصة إذا كان حبيباً أو قريباً من الروح، لو قورنت الحال بما نستطيع قوله له وهو بجوارنا، ونحن وإياه وجهاً لوجه.
تذكرت هذه الأغنية، وأنا أقرأ نماذج من المراسلات بين الكاتب هنري ميللر، والمرأة التي أحبها: أناييس ين، الكاتبة هي الأخرى، وهي من أجمل المراسلات في تاريخ الأدب العالمي، كونها عائدة لمبدعين كبيرين، وهي تبدد الفكرة التي ذهبت إليها الأغنية من أن الرسائل لا تقول كل شيء، فلربما تكون الكتابة أرحب وأعمق من القول في البوح بما نكنه من مشاعر أو ما يعترينا من غضب.
ولعل هذا يجعلنا نفهم كيف أن أناييس ين تختم إحدى رسائلها إلى ميللر التي تحمل شحنات من الغضب منه بالقول: «قد لا أرسل إليك هذه الرسالة»، لأنها أشفقت عليه من غضبها، بعد أن كانت استهلت الرسالة بالقول: «لا أريد أنْ أراك على مدى بضعة أيام. طلبتَ مني أنْ أزدهر على نصف حب، أنت تختبر شجاعتي حتى الزبى، كما التعذيب، وأنا ليس لدي إلا مورد واحد أستمدُّ منه القوة هو الكتابة، من الناحية الإنسانيّة، أنا مُجرَّدة من القوة».
أما سبب رغبتها بألا ترسل له الرسالة الغاضبة فنجده في التالي: «ما زال لديّ الحدس بأنّ أهمّ شيء في المُطلق هو كتابك، وأنّه ينبغي ألا أزعج عملك في هذا. أما ما تبقّى فمجرد حياة إنسانية».
كان ميللر منهمكاً في إعداد كتاب جديد، وفي غمرة انشغاله عليها أهملها أو لم يعد لديه الوقت الكافي للاهتمام بها، ولأنها كاتبة كانت تدرك ما ينتاب الكتاب في مثل هذه الحالات، وما غضبها إلا وجه آخر من حبها العاصف له، الذي نقرأه في رسالة أخرى تقول فيها: «إنّني مستعدة مقابل بقائك معي أنْ أرمي بحياتي كلها، أنْ أضحي بمئة شخص، إنني لا أقوى على منع نفسي من قول إنني أفيض، إنني أحبك كما لم أحبّ أي شخص آخر».
هذا عن حب أناييس لميللر، أما حبه هو لها، فنجده في رسالة منه إليها: «أنا منغمس تماماً في كائن آخر، فيك. عندما تبتعدين عني، حتى ولو قليلاً، يهبط السواد عليّ، أشعر بأني مُحاصَر. ولكي نُحافظ على ما خلقنا بيننا، وداخلنا، علينا أنْ نتحرّك بسرعة وأنْ نتعرض للخطر، ونحن في كامل وعينا. لقد وصلنا إلى شيء لم تعرفه إلا القِلّة القليلة من الناس. يجب أنْ نكون صادقَين مع نفسينا، ومع ما نعرف ونشعر. إذا زللتِ، يجب أنْ أرفعكِ. وإذا زللت، يجب أنْ تفعلي الأمر نفسه. وإلا اهتزَّ العالم وضعنا».
madanbahrain@gmail.com