روسيا التي «لا تقهر»
كمال بالهادي
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن استراتيجية جديدة في مواجهة ما أسماها أخطاراً خارجية، سعت طوال السنوات الماضية إلى عرقلة التقدم الروسي، ومنعها من استعادة أمجاد الماضي. وفي خطاب أمام مجلس الدوما دام ساعتين، كشف بوتين عن أوراق الخطة الجديدة التي ستجعل روسيا دولة لا تقهر.
بوتين كشف في الخطاب عن تطوير بلاده عن جيل جديد من الأسلحة وصفها بأنها «لا تقهر». وهي جيل جديد من الأسلحة النووية التي سيتم تزويد كلّ أصناف الجيش الروسي بها، بما في ذلك جيش البرّ. وبطبيعة الحال جاء الرد الأمريكي سريعاً، حيث علق البيت الأبيض على هذه الاستراتيجية الروسية بالقول إن موسكو تخرق معاهدة حظر الأسلحة النووية، الموقعة بين الطرفين عقب الحرب الباردة. وجاء الرد الروسي نافياً الادعاءات الأمريكية، معتبراً أن واشنطن هي التي قامت بخرق الاتفاقية مرات عدة.
وعندما نعود إلى شهر فبراير/ شباط الماضي، سنجد أن الولايات المتحدة قد أعلنت بدورها عن استراتيجية جديدة، تعكس عقيدة القوة التي يدعو إليها الرئيس ترامب، حيث أعلنت «البنتاجون» عن تحديث «الثالوث النووي» للولايات المتحدة، والذي يتضمن الطيران الاستراتيجي والصواريخ الباليسيتية العابرة للقارات والغواصات الحاملة للرؤوس النووية.
المراقبون اعتبروا خطاب بوتين الأخير، رفعاً لسقف التحدي الروسي تجاه واشنطن. فإذا كان ترامب يبني عقيدته على مبدأ «لنجعل أمريكا قوية مرة أخرى»، فإن عقيدة بوتين منذ وصوله إلى الكرملين، بنيت على مبدأ «لنستعد أمجاد الماضي». ويتضح هنا أن مسار الأحداث خلال السنوات الماضية، قد دفع الطرفين إلى استعادة نسق التسلح السريع، استعداداً لمواجهة محتملة بين قوتين عظميين، تتجنبان، إلى حد الآن، المواجهة العسكرية المباشرة، لكن الاحتكاك بينهما يجري على قدم وساق على المستوى السياسي والاقتصادي، وفي أكثر من ساحة دولية.
ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وانفراد الولايات المتحدة بالنظام العالمي الجديد، سعت روسيا إلى أن تعيد بناء نفسها، واستطاعت في ظرف عقد من الزمان، أن تقدم نفسها كقوة اقتصادية وسياسية منافسة للولايات المتحدة، ويمكننا أن نرصد جملة من المتغيرات في عقيدة استعادة أمجاد الماضي الروسية:
– عملت روسيا على قيادة إصلاحات إدارية، سمحت باستعادة هيبة الدولة، وتم استثمار عوائد النفط والغاز خاصة في سنوات طفرة الأسعار.
– على المستوى الدولي، استطاعت روسيا أن تنسج علاقات قوية مع شركاء متنوعين من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية، وساهمت في تأسيس تجمع البريكس الذي يعدّ قوة منافسة للتحالف الأوروبي الأمريكي. وتبيّن أن مجموعة البريكس باتت قوة سياسية لها حد أدنى من التجانس في المواقف السياسية، ويتضح ذلك سواء في مجلس الأمن، أو في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويمكن القول إن روسيا نجحت في سحب عدة دول في الشرق الأوسط إلى جانبها، في رد مباشر على سحب الولايات المتحدة بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق إلى حلف الناتو.
– تحولت روسيا منذ العهدة الرئاسية الأولى لبوتين إلى دولة «مبادرة»، إذ نلحظ تدخلاً روسياً مباشراً في عد من القضايا، ومن دون انتظار موقف الولايات المتحدة. حدث ذلك في حرب جورجيا، وحدث هذا بصورة جلية في أزمة شبه جزيرة القرم، عندما أقدمت موسكو على ضم القرم، ولم تنجح العقوبات الاقتصادية في التأثير على قرار الكرملين.
إن جملة هذه التحولات التي وقعت في السنوات، تمهّد في واقع الأمر لمواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا. وعندما يكشف الطرفان عن استراتيجيات تتعلق بتحديث أنظمة الحماية والدفاع، ويقع التركيز من الجانبين على ذكر الأسلحة النووية في إطار عقيدة أمنية جديدة، لا تستثني أسلحة الردع المحرمة دولياً، فذلك يعني استعادة أجواء الحرب الباردة، ورفع درجاتها إلى الحد الذي يكون فيه كلّ طرف قد جهّز جيشه للمواجهة العظمى. بوتين يقول إنه وجه قادته لتطوير كل أنظمة الدفاع وجعلها متفوّقة، والولايات المتحدة ترد بأن جيشها جاهز للدفاع عن الأمّة.
هذا الخطاب المتبادل، يعد خطاب حرب، خاصة بعد إلغاء موسكو جولة مفاوضات حول التعاون الاستراتيجي مع واشنطن. الثابت أن الخطّ الساخن بين البلدين هو في أدنى درجاته على المستوى السياسي، ولكن على مستوى سباق التسلح، فإن الشرارة هي على أهبة الاشتعال.