رياح غير مواتية بين «تل أبيب» وموسكو
د. محمد السعيد إدريس
أكدت اللحظات المحدودة، التي جمعت بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الكيان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الأحد (2018/12/11) في باريس على هامش إحياء الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى، جدية توقعات نتنياهو بجذرية الأزمة، التي فرضت نفسها على العلاقات بين روسيا و«إسرائيل» منذ حادث سقوط الطائرة الروسية (إيليوشن- 20) قبالة السواحل السورية (فجر 2018/9/18) الذي حمَّلت موسكو«إسرائيل» المسؤولية الكاملة عن سقوطها. اللقاء بين نتنياهو وبوتين تم بشكل عرضي، ولم يستمر إلا لدقائق معدودة، رغم كل ما بذله نتنياهو من جهود ووساطات، كعادته، لإقناع بوتين بعقد لقاء منفرد ومطول يمكن من خلاله تجاوز الشرخ العميق، الذي فرض نفسه على العلاقات بين البلدين.
الأمر الملفت بهذا الخصوص أن نتنياهو كان قد التقى عدداً من قادة دول شرق أوروبا قبل حوالي أسبوعين من لقائه الهامشي مع بوتين في باريس، ربما في محاولة منه لوساطة يقوم بها هؤلاء القادة بين «تل أبيب» وموسكو، أخبرهم أن الأزمة مع بوتين «قاسية جداً، وحدَّتها أكثر بكثير جداً من التقديرات، التي اعتمدنا عليها»، ومشيراً إلى أن بوتين «يرى في إسقاط الطائرة مساً خطراً به وبهيبته وكرامته» معتبراً: «أن الأزمة مسَّت مسَّاً استراتيجياً بالعلاقات بين البلدين»، وهذا ما دعاه لتوقع تفاقم الأزمة، ورغم ذلك لم يتردد في محاولة استرضاء بوتين على نحو ما حدث في باريس.
وفق ذلك علينا أن نتوقع أن نتنياهو لن يهدأ حتى يستعيد دفء العلاقة مع موسكو؛ من أجل العودة بالعلاقات إلى أجواء التنسيق السابقة أو التوافق السابق بين البلدين، وبالتحديد في سوريا؛ لأن هذا أهم ما يشغل «تل أبيب» في علاقتها مع روسيا. فالعلاقات التنسيقية بين «تل أبيب» وموسكو في سوريا، وحسب تصريحات الناطق الرئاسي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أتت بثمارها بالنسبة ل«إسرائيل»؛ حيث كانت «أول دولة بدأ العسكريون الروس التنسيق معها في عملياتهم القتالية بسوريا». كان هذا التنسيق يسمح ل«إسرائيل» بتوجيه ضربات قوية للحشود وللمواقع الإيرانية ولحلفاء طهران في سوريا خاصة «حزب الله»، كما أن موسكو كانت قد تعهدت بإبعاد أي قوات إيرانية أو ميليشيات موالية لطهران بعيداً عن الحدود مع «إسرائيل» لمسافة 100 كم، وهذا ما يأمل نتنياهو بالعودة إليه.
يعتقد نتنياهو أنه يمتلك أوراقاً مهمة لإقناع روسيا بالعودة إلى أجواء التنسيق السابقة في سوريا. من بين هذه الأوراق التقارب الروسي مع أطراف أوروبية؛ للحصول على مشاركة أوروبية في إعادة إعمار سوريا على نحو ما تكشف في مشاركة روسيا في القمة الرباعية، التي عقدت في مدينة إسطنبول التركية (2018/10/27) وجمعت الرئيس الروسي بنظيريه التركي والفرنسي والمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل. كان واضحاً أن بوتين يدرك ضخامة مسؤولية تحقيق الاستقرار السياسي، وإعادة الإعمار، وأنه لا يستطيع، بقدرات روسيا وحدها، القيام بالمهام الهائلة بهذا الخصوص، وأنه بحاجة إلى دعم دولي. نتنياهو يأمل أن يدخل العلاقات «الإسرائيلية»- الروسية ضمن بنود المقايضة الدولية مع بوتين.
أما الورقة الأهم فهي رحيل وزير الحرب «الإسرائيلي» أفيجدور ليبرمان عن حكومة نتنياهو؛ إذ كان قد دخل في صدام علني ضد روسيا؛ عقب القرارات الروسية العسكرية، التي جاءت رداً على حادثة إسقاط الطائرة الروسية، خاصة حديثه مع محطة «سي.بي.سي» الأمريكية (2018/9/29) الذي تحدى فيه روسيا وقال: إن «الطيران الإسرائيلي سيستمر في قصف الأراضي السورية مهما كان موقف روسيا، وأن الطائرات الإسرائيلية ستقوم بإسقاط الطائرات الروسية إذا ما تصدت لها»، وهو الحديث الذي دفع موسكو إلى الرد بعنف عبر وزير دفاعها وقائدي سلاح الطيران والصواريخ الروسيين.
نتنياهو يعتقد أن رحيل ليبرمان يمكن أن يفتح ثغرة في جدار الفجوة العميقة مع روسيا، وأن حاجة روسيا إلى الدعم الأوروبي والأمريكي في سوريا سيدعم هذا التوجه؛ لكن لسوء حظه أن الأحداث تتجه إلى المزيد من التعقيد بين روسيا والولايات المتحدة؛ بعد تصريحات أمريكية متشددة على لسان وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس أمام مؤتمر حوار المنامة، الذي أعلن فيه أن«روسيا لا يمكن أن تحل محل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، وتصريحات أخرى على لسان المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري أدلى بها أمام شركاء «المجموعة الصغيرة» الذي عقد في لندن (2018/10/29) أكد فيها بقاء القوات الأمريكية في سوريا طالما ظل لإيران وجود عسكري فيها.
هذا المؤشر الأمريكي يدفع موسكو لمزيد من التشدد في سوريا، ولمزيد من تعميق التحالف مع إيران، خصوصاً مع بدء أمريكا تنفيذ عقوباتها المشددة ضد إيران؛ وذلك كله يؤكد أن رياح «تل أبيب» ما زالت غير مواتية مع موسكو عكس كل ما يأمله ويراهن عليه نتنياهو.
mohamed.alsaid.idries@gmail.com