زايد.. ومئويات القادة العظام
د. ناجى صادق شراب
كثيرة هي الزعامات والقيادات التاريخية التي ذاع صيتها وتركت بصماتها في بلادها، لكن قليلة هذه القيادات التي تركت تاريخاً وفلسفة ورؤية سياسية تتجاوز الحدود الجغرافية لبلدها، وهنا الفارق بين قيادة تاريخية صنعت تاريخاً أو حدثاً مهماً على صعيد دولها، وقيادة تاريخية تجاوزت حدودها الجغرافية، لتصل إلى كل بقاع المعمورة.
ونماذج القيادات العالمية كثيرة التي تركت بصماتها العالمية والإنسانية. نذكر منها نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا الذي هزم العنصرية وأسس للتعايش السياسي بين البيض والسود وبنى دولة قوية بفضل سياسة التسامح التي كانت أساس بناء المواطنة الواحدة.
ونذكر ماوتسي تونج والثورة الشيوعية الاشتراكية التي تمثلها الصين كقوة عالمية تنافس على قمة النظام الدولي، والمهاتما غاندي الذي حرر الهند من إمبراطورية بريطانيا من خلال المقاومة السلمية، لتصبح الهند اليوم أكبر القوى الصاعدة عالمياً، وتقدم نموذجاً فريداً كأكبر ديمقراطية في العالم.
ونموذج دولة الإمارات التي أسسها الشيخ زايد، طيب الله ثراه، هو نموذج فريد في الانتقال من دولة عادية إلى دولة مؤثرة، تحث الخطى نحو التقدم والريادة.
في هذا السياق نذكر قادة عالم عدم الانحياز، عبد الناصر الذي تتزامن مئويته مع مئوية الشيخ زايد، ونهرو وتيتو. وعندما نذكر هذه القيادات ونذكر معها قيادة الشيخ زايد، ولكي نوضح عظمة ومكانة هذه القيادة التي خرجت من قلب الصحراء ببنيتها القبلية، فأصبحت اليوم مترامية الأطراف عالمياً، بتسامحها وإنسانيتها وقيمها وقيادتها لكثير من الأنشطة العالمية التي تشهدها دولة الإمارات على مستوى المنتديات العالمية والحكومة الذكية ولقاء القادة على أرضها. وعندما نتكلم عن قيادة الشيخ زايد إنما نتحدث عن دولة الإمارات ودورها الريادي على كافة المستويات. إلا أن قيادة الشيخ زايد تتفرد عن كل القيادات التاريخية والعالمية، والتفرد هنا له مبرراته، أولا من المكان الذي انطلقت منه هذه القيادة، ومن اللحظة الزمنية التي أعطت لقيادة الشيخ زايد أبعادها العالمية. ونجاح القيادة يقاس بالقرارات التي تتخذها، وبصلاحية فلسفتها ورؤيتها السياسية، لتتحول إلى نموذج يصلح للتطبيق على مستوى كافة الدول.
وهنا عندما نتحدث عن فلسفة التسامح الفكري والحوار الديني والإنساني، لا نتكلم عن نموذج محلي، بل عن نموذج عالمي تتبناه الكثير من المنظمات الدولية والدول. هذا النظام وهذه الفلسفة هي التي وضع لبناتها وجذورها الأولى الشيخ زايد.
عظمة هذه القيادة في أمور ومجالات كثيرة لا يمكن حصرها في سياق واحد، أشير هنا إلى قرار الاتحاد وبناء الدولة، وهو من أعظم القرارات التي اتخذها الشيخ زايد، وهذا القرار ليس مجرد قرار، أو رغبة وحلم تحول إلى واقع. لكن قرار الاتحاد يحمل رؤية تجاوزت حدود التاريخ والجغرافيا. لقد جاء قرار الاتحاد الذي شاركه فيه أخوه الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي، وكانت هذه الثنائية التي قامت عليها الدولة ومازالت بمشاركة بقية حكام الإمارات، نموذج فريد في الفيدرالية، والوحدة، في إطار من مشاركة كل الإمارات.
هذا القرار كان يمكن أن يفشل، ولو كان قراراً متسرعاً عبثياً، لأن الظروف التي قامت فيها الدولة كانت من أخطر المراحل التي مرت بها المنطقة، هناك أطماع إيرانية تمثلت باحتلال الجزر الثلاث لدولة الإمارات، وصراع عالمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وأجواء الحرب الباردة. القرار هنا كان أشبه بقرار قبطان السفينة التي تتصارع مع الأمواج، لكن حكمة الشيخ زايد واضحة الهدف المتمثل بقيام الاتحاد، لأن البديل هو التفكك والانقسام، فكان الاتحاد في بيئة تعاني عدم توفر المؤسسات السياسية، والمدارس والمستشفيات والطرق، فكان أن سخر ثروة أبوظبي البترولية المحدودة في خدمة نجاح الهدف، ومنذ البداية ابتعد عن مفهوم الحاكم المسيطر، بل قدم نموذجاً للحاكم الأب. وكان إدراكه منذ البداية أن الإنسان هو الاستثمار الحقيقي وأن التعليم هو مفتاح التنمية.
البعد الآخر هو البعد القومي، ومقولته المشهورة خلال حرب أكتوبر 1973 «النفط ليس بأغلى من الدم العربي»، وتقديمه المساعدات لمصر وسوريا،ما زالت تمثل عنواناً للرؤية العروبية الحقيقية. والالتزام بقضايا الأمة هي التي تعتبر أحد أهم ثوابت السياسة الخارجية للدولة، ولعل نموذجها اليوم في العلاقات القوية بين دولة الإمارات ومصر، ودعم واحتضان القضية الفلسطينية. هذه بعض إشراقات من جوانب قيادة الشيخ زايد في مئويته التي تبقى حية في وجدان أبنائه أو كما يقال أبناء وعيال زايد، والوجدان العربي والعالمي. قيادة ما أحوجنا لحكمتها اليوم.
Drnagishurrab@gmail.com