زيمبابوي.. نهاية عصر
د. غسان العزي
كان «أبو الاستقلال» روبرت موجابي من أبرز المقاتلين «من أجل الحرية» ضد السلطة العنصرية التي حكمت بلاده قبل استقلالها في العام ١٩٨٠، ومن أبرز وجوه الكفاح ضد الأبارتهايد في إفريقيا الجنوبية المجاورة. في العام ١٩٦٤ أسس حزب «الاتحاد الوطني الإفريقي الزيمبابوي»(زانو) ما تسبب له بالسجن عشر سنوات. وبعد خروجه من المعتقل لجأ إلى موزامبيق المجاورة، حيث أطلق منها حركة كفاح مسلح، نجحت بتحرير بلاده من السلطة الروديسية العنصرية البيضاء. وقد حصلت روديسيا الجنوبية من المستعمر البريطاني على الاستقلال بموجب اتفاقات لانستر هاوس في العام ١٩٨٠، وأضحى اسمها زيمبابوي.
غداة التحرير حظي «الرفيق بوب» باستقبال شعبي بصفته «المحرر»، فأضحى رئيساً للوزراء في الدولة الجديدة، حيث مارس سياسة تصالحية لم تنتقم من البيض الذين كانوا في السلطة العنصرية. وهكذا أضحى الثوري الماركسي نموذجاً يحتذى به لقائد وضع بلاده في مسار عصرنة وتقدّم، في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لكن في المقابل لم يتردد موجابي في استخدام العنف ضد معارضيه، الذين قتل منهم أكثر من عشرين ألفاً، وفي فرض ثقافة الحزب الواحد. وفي العام ١٩٨٧ نصّب نفسه رئيساً للجمهورية، واستمر في التجديد لنفسه في نهاية كل ولاية رئاسية عبر انتخابات شكك كثيرون في نزاهتها. وعلى الرغم من فوز زعيم المعارضة مورجان تسفانجيريه في انتخابات العام ٢٠٠٨ اضطر للتخلي عن الرئاسة تحت ضغط أعمال العنف التي نظّمها ضده حزب موجابي الحاكم.
ومنذ ذلك الوقت راحت زيمبابوي تعيش على وقع الأزمات السياسية والمالية والاقتصادية وغيرها، وفي وجه المطالبين برحيله عن السلطة أقلّه بسبب تدهور حالته الصحية وكبر سنه، كان يزداد تمسكاً بها. ففي العام ٢٠١٣ أعلن موجابي: «أن سنواتي التسع والثمانين لا تعني شيئاً، فأنا ما زلت أحمل الكثير من الأفكار، وهي أفكار على الشعب أن يقبل بها». أكثر من ذلك فقد تحدّى الجميع مرة حين قال إنه في أحد الأيام سوف يحتفل بعيد ميلاده المئة وهو في السلطة.
في العام ١٩٩٦ كان موجابي قد تزوّج من سكرتيرته الشابة والتي سرعان ما كشفت عن طموحات سياسية وميل للبذخ والإسراف. جمعت من حولها عدداً من المؤيدين لها في الحزب الحاكم، وأخذت تخطط لإطاحة نائب الرئيس إيمرسون مناناجوا، المرشح الطبيعي للحلول محل موجابي في الرئاسة. لكن الرئيس لم يتخلّ عن نائبه لسبب هو أن زوجته ألّبت ضدها الكثير من الضباط الكبار والبرلمانيين وأعضاء الحزب الحاكم، بسبب سلوكها التسلطي المتعجرف.
وإزاء الانهيار المالي والارتفاع الجنوني للأسعار، ولنسبة البطالة وخلو صناديق الدولة من السيولة والجوع الذي بدأ يضرب الفئات الشعبية وغيرها من الأزمات المستعصية، ارتفعت الأصوات المطالبة برحيل الديكتاتور الذي يصرّ على الترشح لولاية جديدة في انتخابات أغسطس/ آب المقبل. وفي بداية الشهر الجاري دخلت زيمبابوي في أزمة سياسية بسبب إصرار الجميع، وفي مقدمهم القوات المسلحة والحزب الحاكم نفسه، على رحيل الديكتاتور، وذلك على وقع تحرّك سياسي وشعبي «غير مسبوق في تاريخ زيمبابوي» على ما أعلن رئيس البرلمان جاكوب موديندا.
في مواجهة هذا الحراك فاجأ الرئيس الجميع في خطاب، يؤكد استمراره في السلطة والترشح لولاية جديدة. وقد توجّهت إليه زوجته على نحو علني، في الخامس من الشهر الجاري، بالقول: «يجب أن تترك لي مكانك، لا تخف، اعطني إياه بإرادتك». وبالفعل أعلن موجابي، تنحية نائبه مناناجوا، الأمر الذي كان، بحسب المراقبين، بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
فوراً تحرّك الحزب الحاكم، فطرد موجابي من عضويته، وأعلن رئيس البرلمان موديندا، افتتاح جلسة برلمانية استثنائية لتنحية الديكتاتور إذا لم يتنحّ بإرادته. وهذا ما حصل، فقد أعلن موديندا في ٢١ نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، تقديم موجابي لاستقالته بعد سبعة وثلاثين عاماً من الحكم.
لقد خرجت زيمبابوي من «عصر موجابي» الطويل، لكن هل دخلت في ربيع ديمقراطي؟ لا شيء يشي بذلك. صيحات الفرح برحيل الديكتاتور التي علت في أرجاء مقر اللجنة المركزية للحزب الحاكم لا ينبغي أن تخدع أحداً. فهؤلاء الأعضاء هم أنفسهم الذين دعموا النظام الديكتاتوري واستفادوا منه طوال العقود الأربعة المنصرمة. أما خليفة موجابي إيمرسون مناناجاوا الملقب ب «التمساح» (٧٥ عاماً) فقد كان الذراع اليمنى للديكتاتور، وما كان ليخرج عن طاعته لولا أن السيدة الأولى هي التي دفعته إلى ذلك طمعاً منها بالسلطة.
لكن من الجهة المقابلة يمكن القول إن الرئيس الجديد الذي يدرك حالة بلاده الاقتصادية المتردية، سوف يضطر لطلب المساعدات والقروض من البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية وغيرهما. وقد تستغل المجموعة الدولية هذه الفرصة لتطلب منه الالتزام بالسماح للمعارضة بالمشاركة في الانتخابات في صيف العام المقبل، وإلا فإن الآمال المعقودة على رحيل الديكتاتور قد تنقلب بسرعة إلى خيبة أمل ثم إلى غضب شعبي عارم.