قضايا ودراسات

سترات باريس الصفراء

د. حسن مدن

لا نحسب أن المصادفة وحدها من جعل فرنسا، وعاصمتها باريس بالذات، منطلق احتجاجات حركة السترات الصفراء، ضد رفع أسعار المحروقات والسياسة الضريبية التي يتبعها الرئيس ماكرون وحكومته، مطالبة بتخفيض الضرائب، وبتنظيم استفتاء عام حول السياسات الاجتماعية والاقتصادية الواجب اتخاذها.
القضايا التي يطرحها المحتجون الفرنسيون ليست وليدة الساعة، وهي أيضاً ليست خاصة بفرنسا وحدها. الأرجح أن الكثير من الدول الغربية تواجه القضايا نفسها، بحدة تزيد أو تنقص، لكن لفرنسا وعاصمتها تراثاً في التحركات والانتفاضات الشعبية التي تنطلق في الغالب تعبيراً عن أزمة خانقة بلغها المجتمع بسبب السياسات المتبعة.
لن نعود إلى الثورة الفرنسية التي غيّرت لا وجه فرنسا وحدها، وإنما كان لارتداداتها آثار حاسمة في أوروبا، لا بل وفي العالم كله، ولكننا سنعيد إلى الذاكرة الانتفاضة الطلابية في فرنسا عام 1968، التي شهدت الكثير من المظاهر المرافقة للتحرك الحالي، من مواجهات عنيفة مع الشرطة، ومن إقامة المتاريس والحواجز في الشوارع، ومن استهداف بعض المنشآت العامة.
جاء ذلك التحرك الستيني رداً على أزمة سياسية واجتماعية حادة، عجزت الدولة عن حلها، تماماً كما هي الحال اليوم، وارتدت أيضاً الطابع العفوي الذي عليه التحرك الراهن، فرغم أن مفكرين وفلاسفة وكتاباً مستقلين دعموا تحرك 1968، بل تحولوا إلى ملهمين له، إلا أن التحرك نفسه كان خارج سيطرة الأحزاب السياسية، بما فيها اليسارية، لا بل إنه في بعض أوجهه كان تمرداً عليها هي نفسها لا على الدولة وحدها وسياساتها، وهذا ما يتسم به، إلى حدود كبيرة، تحرك السترات الصفراء أيضاً.
البعد الاجتماعي – المعيشي هو الطاغي على هذا التحرك، لكنه في الجوهر تعبير عن أزمة سياسية عميقة، تعكس أزمة العولمة نفسها على الصعيد الأوروبي والكوني، حيث باتت وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بمثابة المقرر الإجباري المفروض على كل الحكومات والبلدان بصرف النظر عن خصوصيات كل بلد، وهي وصفات جرت وتجر احتجاجات مشابهة لتلك التي في فرنسا اليوم.
يضاف إلى هذا كله أن الحياة السياسية الفرنسية التي عرفت بديناميتها العالية في مراحل سابقة تعاني جدباً ملحوظاً، هو نفسه الذي حمل مانويل ماكرون إلى الإليزيه، مع غياب القامات السياسية الوازنة التي عرفتها فرنسا في تاريخها الحديث: الجنرال ديجول، فرانسوا ميتران، جاك شيراك ومن هم في وزنهم، وتراجع مكانة ودور الأحزاب السياسية التقليدية، فخلا الفضاء لوجوه سياسية شاحبة، ولحركات عفوية غير منظمة.

madanbahrain@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى