قضايا ودراسات

سلاحان لمجابهة التطَرف

كمال الجزولي

ربَّما كان الوجه الأساسيُّ لأزمة نمط التديُّن الشّعبوي السَّائد في البلدان الإسلاميَّة كامناً في ما يمكن أن ينتهي إليه أصحابه من مَحْق «صحيح الدين» الذي هو كلمة الله في تعاليه المطلق، لحساب «مُتخَيَّل التديُّن» الملتبس بوقائع تاريخ الدولة الإسلامية، والذي هو بعض كسبهم البشري القاصر، فما يخلصون، في لاوعيهم الجمعي، سوى إلى التحوُّل من «تقديس القرآن» إلى «تقديس التَّاريخ»، والعياذ بالله! بل إن الخلط والتخليط بين النُّصوص قطعية الورود والدَّلالة في القرآن والسُّنَّة، و«الفقه»، كاجتهاد بشري مسيَّج بمعايير الصَّواب والخطأ، لهو من أخطر مآلات هذا «التقديس» للتَّاريخ! فحتَّى المشروعات الفقهيَّة الضَّخمة في التاريخ الإسلامي، بما فيها أعمال الصَّحابة والخلفاء الرَّاشدين، دَعْ هوامش الشروح والتفاسير على المتون الأصلية، إنما هي، في النهاية، من اجتهاد «بشر» مسلمين.
ضمن هذا الإطار يبرز، بوجه خاص، مشهد «الفهوم» شديدة التَّباين داخل الجماعة المسلمة ذاتها، بشأن موقف «دينها الواحد» من هذه القضية أو تلك، مع افتقارها، ثقافياً، إلى الحدِّ الأدنى من القدرة على تنظيم وإدارة هذا التباين، الأمر الذي أتاح ويتيح لتيَّارات الغلوِّ والتطرف والإرهاب أن تحتكر «صحيح الدِّين»، فتحصره في «فهمها» هي، أي نمط «تدينها» وحده، وأن تعتبر كلَّ ما عداه «كفراً بواحاً»! ولعلَّ أسطع نموذج لذلك جماعة الإخوان المسلمين التي سعت، في بعض أطوارها، لنشر نمط «التديُّن» المعتزل للمجتمع، المكفِّر له، على يد أبي الأعلى المودودي وسيِّد قطب، مِمَّا يجعلها مسؤولة، الآن، وبكلِّ المعايير، عن «الفقه» الذي فرَّخ، وما زال يفرِّخ، مختلف الجماعات المتطرفة والإرهابية، ك «القاعدة» في أفغانستان، و«الحوثيين» في اليمن، و«شباب المجاهدين» في الصُّومال، و«بوكو حرام» في نيجيريا، و«داعش» في العراق وسوريا.. والحبل على الجرار!
طرح المسألة في هذا المستوى، فضلاً عن المعرفة الوثيقة بجوانبها ومناهجها ولغتها ومصطلحاتها كافة، ومن أوثق المصادر الإسلامية، هو جهد لا يُنتظر، فحسب، مِن «رجال الدِّين» مجازاً، مع العلم بعدم وجود هؤلاء «الرِّجال» في الإطار الإسلامي ووجودهم في الإطار القروسطي الأوربي، بل من كلِّ عضو في الجماعة المسلمة، خصوصاً من مثقفيها، تبعاً للحديث الشريف الذي رواه البخاري: «من أراد الله به خيراً فقَّهه في الدِّين». هذا الجهد الفقهوفكريُّ مطلوب بإلحاح، لمجابهة الغلوِّ، والتطرُّف، والإرهاب، سياسياً وثقافياً وأخلاقياً. لكن فضله يجل، بطبيعته، عن محض الرُّكون إلى مناهج، ولغة، ومصطلحات الصِّراع السِّياسي اليومي التي لا يجدر التعويل عليها للخروج بالقضيَّة من ضيق الأفق الذي يجعل منها، في الغالب، عظمة نزاع سياسي غوغائي؛ فليس أفضل من خطة تروم معالجة الصراع الفقهوفكري بمناهج وآليَّات السياسة السياسوية، حسب المصطلح الفرنسي!
ويجدر بنا أن نأخذ في الاعتبار ملاحظة غاية في الأهمية تتصل بالمقارنة المحيرة بين المستوى المتدنِّي الذي تطرح به هذه التيارات دعاواها، من جهة، وبين ما تبدي مع ذلك، من قدرة مدهشة على الهيمنة، من جهة أخرى، على كثير من العقول الشابة. فضُّ مغاليق هذه الحيرة لا يكون بإسناد هذه القدرة إلى أي فلاح يمكن أن يُحسب لأطروحات هذه التيارات، بقدر ما يكون بإسنادها إلى توسُّلها بوسائط تنتسب إلى أحدث منجزات علم السايبرنيطيقا الحديث Cybernetics
، وهي الوسائط التي يفتتن الشباب باستخدامها، صباح مساء، في مختلف أنحاء العالم. ولعل هذا بعض أهم ما يفسِّر السلاسة التي يتم التحشيد بها لصالح «داعش»!
وإذن، فالواجب المقدم، بالنسبة لمثقفي تيَّار العقلانيَّة ممن يستشعرون خطر تيارات التطرُّف والإرهاب على مستقبل أيِّ مشروع للنهضة، هو إحسان منازلتها بسلاحين لا غنى عن أي منهما:
الأوَّل، هو إتقان التواصل مع الأجيال الجديدة عن طريق الوسائط السَّايبرنيطيقيَّة، حيث إن مزاجها العام ميَّال للأخذ بأسباب هذه الوسائط. لذا فإن كلَّ ما يُبذل من جهد لنشر الوعي عن طريق المصادر الورقيَّة لا يساوي قطرة في محيط النجاح الذي يمكن أن يتحقَّق عن طريق الوسائط الحديثة. وأما السِّلاح الآخر فهو إعادة النَّظر في أساليب الكثير من المثقفين التَّنويريين الحداثيين، والمتمثِّلة في الاقتصار على المناهج والمعارف السياسية الغربيَّة وحدها، رغم أهميَّتها. فالانكباب على هذه المناهج يجعل الكسب الثَّقافي العام في حقل المناهج والمعارف «الدينيَّة» من البؤس بحيث لا يؤهِّل لمجابهة تلك الأطروحات في المجال الفقهوفكري الحيوي، بالتركيز، خصوصاً، ولأسباب جوهريَّة معلومة، على فئات الشَّباب والطلاب.

kgizouli@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى