قضايا ودراسات

سلام ما بعده سلام

قد تكون واحدة من سمات عصر ما بعد الحقيقة هي اعتبار أنصاف الحقائق على أنها حقائق تامّة، فعندما يكون النظام الدولي مختلّاً يصبح من الطبيعي تجاهل الحقيقة، والقفز من فوقها، والترويج للسياسات الآنية على أنها حلول طويلة الأمد، بما يسمح بتحويل الأنظار لدى الرأي العام عن المشكلات الرئيسية، وإشغاله بمشكلات فرعية، وترسيخ أوضاع هشّة قابلة للانفجار في أي لحظة، ومثال ذلك ما جرى في العراق منذ لحظة احتلاله من قبل الولايات المتحدة في عام 2003، أو أشكال التعاطي الإقليمية والدولية تجاه الحراك السوري.
لقد بات واضحاً اليوم أن سيناريو احتلال العراق لم يأخذ بالحسبان جملة المشكلات الكامنة في المجتمع العراقي، ولا المشكلات التي ستستجد بعد الاحتلال، على المستويين الداخلي/ العراقي، أو الخارجي/ الإقليمي والدولي، وأنه قد اعتمد استراتيجية مبسطة تقوم على مبدأ «لنفعل ونرى»، وهي استراتيجية تجريبية في العموم، وقد اعتمدها الأمريكان في لحظة اختلال كبرى في النظام الدولي، انطلاقاً من وهم التفرّد في إدارة الشؤون الدولية، خصوصاً مع انعدام وجود منافسين دوليين في تلك الفترة، مستفيدين بالطبع من التأييد العالمي للولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 2001.
افترضت الولايات المتحدة في طريقة تعاطيها مع العراق أن وصول الدولة الوطنية العراقية إلى نهايتها، سيسمح بتكريس نظام محاصصة طائفي، يكون مقبولاً عند الغالبية العراقية، طالما أنه يعكس التوازنات المذهبية في العراق، وهو ما عكسه دستور بريمر، غير أنه من الناحية الفعلية، جاء دستور بريمر ليضع العراق على سكة الانفجار الدائم، وهو ما أكدته الوقائع على طول الخط، خلال السنوات الماضية؛ حيث انتقل العراق من أزمة إلى أخرى، ومن انفجار إلى آخر، خصوصاً مع حاجة الأمريكان إلى مقايضة خروجهم من العراق بإعطاء إيران دوراً نافذاً في إدارة شؤون البلد.
لقد أفضت المعالجات الخاطئة للشأن العراقي من قبل الولايات المتحدة، وتمكين الدور الإيراني، إلى ردود فعل داخلية وخارجية، أدت إلى تكريس المنطق الطائفي، بما ينطوي عليه من أبعاد خطرة، ومن احتمالات أخطر، فما ظهور «القاعدة» في العراق، ومن ثم «داعش»، إلا إحدى نتائج ذلك التكريس للمنطق الطائفي، خصوصاً مع تفتيت أي إمكانية حقيقية لنهوض جمهورية جديدة، على أسس حديثة، وقد أفضى كل ذلك إلى تحويل العراق إلى دولة فاشلة، وجعله بؤرة متجددة للأزمات.
وفي المثال السوري، ومع جملة الاختلافات عن المثال العراقي، لا تبدو أنماط المعالجة الدولية مختلفة من حيث تكريسها لمآلات متشابهة عن مآلات المثال العراقي، فقد تحوّلت سوريا إلى دولة فاشلة خلال السنوات القليلة الماضية، وظهرت فيها أنماط متعددة من التنظيمات الراديكالية (القاعدة، داعش، تنظيمات راديكالية محلية)، مع تحوّل النظام المركزي إلى نظام تابع إلى حلفائه الروس والإيرانيين.
ومنذ بيان جنيف واحد، الصادر في 30 يونيو/ حزيران 2011، فشل المجتمع الدولي في بناء مقاربة موحّدة للوضع السوري؛ بل إنه، ومع كل ما أبداه المجتمع الدولي من حرص ظاهر على عدم انهيار الدولة المركزية، فقد تراجعت الدولة المركزية وتقلّصت، بعد أن سلّمت عدداً كبيراً من مهامها الرئيسية للدول والتنظيمات الحليفة، وتحوّلت إلى كيان هشّ، في ظل عملية مستمرة من تحويل أنصاف الحقائق إلى حقائق كاملة، وفي مقدمتها تحويل الإرهاب من كونه نتيجة طبيعية لفشل النظام السياسي في مقاربة «الانتفاضة»، واعتماده الحلّين العسكري والأمني في التعاطي معها؛ بل وإنكار وجود أزمة وطنية كبرى.
إن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل إنهاء «داعش» في الموصل والرقة سيكون مقدمة لحلول مستدامة في العراق وسوريا، أم أنه ليس سوى نهاية فصل من فصول المأساة سيعقبها فصول أخرى لا تقلّ مأساوية؟
لا تبدو المعطيات الموجودة في البلدين مدعاة للتفاؤل، فالمقاربات الخاطئة للحلول لا يمكن أن تفضي إلى حلول مستدامة، ورفع مسألة الأمن لتكون الأولوية ليست إلا حالة هروب من مواجهة الأزمات التي أفضت إلى الوضع الراهن.
إن مرافعات النظام الدولي حول إنهاء الإرهاب في العراق وسوريا، والسعي إلى إحلال السلام في البلدين، هي مرافعات حولاء، ترى بعين واحدة؛ إذ لا يمكن إحلال سلام دائم دون معالجات جذرية، وما وضع الإرهاب كأولوية دون الحديث عن حلول سياسية حقيقية هي وصفة لإحلال أوضاع متفجرة على الدوام، وإيجاد سلام ما بعده سلام.

حسام ميرو
husammiro@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى