سمو الأمير.. في تصويب المسار.. وتأكيد الاستقرار
في خطابه التاريخي مساء الجمعة الموافق 11 مايو 2024، قدم سمو الأمير ملامح وشكل الكويت الجديدة في حيويتها، والواضحة في سلوكها، والعازمة على تحقيق أهدافها، والمتشوقة لانطلاقها، وفي جميع المسارات تعويضاً عن تقصير الماضي، وحرصاً على تحقيق أهدافها للالتحاق بمواكب التجديد التي يتابعها العالم، ولم يصدر هذا الخطاب «الوثيقة» من مجرد نزعة مؤقتة ستذوب مع ضغط الزمن، بل من موقف حكيم فيه شجاعة القرار، وفيه رسم للخريطة التي تؤمن الوصول إلى الأهداف التي ينتظرها الشعب الكويتي.
ومما يضيف إلى القيمة التاريخية لوثيقة المستقبل أن سمو الأمير حدد المسارات التي ستنقل الكويت إلى بوابة التجديد، وأهمها تجميد الحياة البرلمانية لأربع سنوات على الأكثر، لكنه أكد سلامة الوصول إلى أهداف المستقبل في مرحلة يرتفع فيها الوعي السياسي والبرلماني، ليعود في نشاطاته معتمداً على وثائق وخطط تنموية جامعة يتولى تنفيذها جيل مغاير من وزراء ونواب ومسؤولين في الدولة أولوياتهم النهضة بالوطن وليس استرضاء الناخب لتأمين العودة إلى المقعد عبر الوساطات والتجول في وزارات الدولة واللجوء إلى آليات فيها مضايقات للعمل الجماعي.
ويتحدث سمو الأمير عن اللجوء إلى المناكفات والتضييق على الوزراء، مشيراً بوضوح عن الإفراط في استخدام حق الاستجواب في كل صغيرة وكبيرة، وإهدار القيمة الحقيقية لهذا الحق، مع إساءة بالغة في أسلوب الاستخدام وفي استعمال المفردات الحادة، والتي وصفها سموه بأنها تتعارض مع عادات وتقاليد أهل الكويت.
والحقيقة أن فصل الاستجواب في إجراءاته ولغته دخيل على الكويت وهزلي في منظره ومسرحي في إجراءاته، ونتمنى أن تأتي فرصة لتنقيح الدستور يسقط منها هذا الفصل الذي أضر بالكويت، فلم يستوعبه المجتمع وأصاب صفاء الكويت بجروح غزيرة، مع استبداله باستقالة الوزير الذي يعترض عليه – على الأقل – عشرون نائباً.
كما يتحدث سموه عن التمادي في التدخل في صميم اختصاصات سمو الأمير وفي التشكيل الوزاري وعن هوية وتعيين ولي العهد، وهنا نستذكر أن سمو الأمير تحدث في هذا المنحى مع افتتاح البرلمان في العام الماضي، وفي مناسبات عدة، مطالباً بوقف هذا التمدد غير القانوني وغير الشرعي، ويستطرد سمو الأمير في خطابه متناولاً الأمن الاجتماعي والفساد في التجنيس والتزوير، مؤكداً ملاحقة التزوير، الذي سبب قلقاً عميقاً في المجتمع الكويتي مع تكاثر المزدوجين، وهنا يؤكد سمو الأمير بالتعامل الجدي مع هذا الملف المرتبط باستقرار المجتمع وبأمن الكويت.
ولا بد من الاعتراف بأن الجهل السياسي كان واضحاً في تدخلات بعض المرشحين، في آخر الحملات الانتخابية، وفي خطبهم أمام الجماهير، فيحملهم الحماس إلى التطرق إلى اختصاصات ليست لهم وليست للبرلمان، موظفين مفردات خشنة تمس الشرعية التاريخية ممثلة في الأسرة، ومعها استخفاف بالسجلين التاريخي والقانوني اللذين تملكهما الأسرة، متهمين أفرادها بالتمتع والرفاهية، على حساب الشعب في عملية عبور نحو التشكيك في الذمم وفي الأمانة.
هناك ثلاثة ملفات يرددها سمو الأمير ويصر على ضرورة التعامل معها، فالفساد من أبرز الهموم التي يتابعها الشعب الكويتي خاصة عن شخصيات ما كان الشعب يتوقع سقوطها في إغراءات الفساد، ولحسن الحظ بأن القضاء له سمعة قوية ومصداقية أثبتت فعاليتها في القضايا الكبيرة.
وغير الفساد ضرورة تأكيد احترام القانون وتعميق المساواة، فلا يرتفع المجتمع مع الفوضوية في مسيرة الدولة، ولا يتوافر الانضباط مع غياب القانون، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع اللجوء إلى الحيل والعنف والأساليب المحرمة، وأعجبني الإصرار على حكم القانون في خطابات سمو الأمير، لأنه الطريق القاطع لضمان المساواة.
كما يستذكر سمو الأمير في خطابه القاعدة التي تقوم عليها الديموقراطية في الكويت، وهنا أود الإشارة إلى حقائق تاريخية كانت تشغل اهتمام المرحوم الشيخ عبدالله السالم، الذي أراد أن يقدم للكويت صيغة ديموقراطية تناسب المجتمع الكويتي، وتعبر عن ترابطه التاريخي مع أسرة الحكم، فكان الهدف بناء أسلوب ديموقراطي يتمازج مع تقاليد الشعب الكويتي ويعكس الترابط التاريخي مع الأسرة، فاختار الديموقراطية التشاركية التي تفي بما يسعى إليه المرحوم الشيخ عبدالله السالم، فلا يطغى طرف على حساب الآخر، بل هي أسلوب التوافق بين الجانبين.
والواضح أن هذا النوع النادر من الصيغ الديموقراطية يتطلب وعياً سياسياً وثقة متبادلة نقية في نواياها، ولها إملاءات مع الاسف لم يوفر لها الدستور حقها في الشرح والتعريف، بل وردت كثيراً في مناقشات المجلس التأسيسي لكنها لم تتربع في الثقافة السياسية للمجتمع الكويتي.
والتشاركية هي شراكة الشعب والأسرة في صيغة رآها المرحوم الشيخ عبدالله السالم المناسبة والفريدة والجامعة للطرفين المتفاهمين، والمتعاونين عبر تاريخ قائم على تبادلية الثقة ومصداقية السلوك والتعاون المشترك، وكانت التجارب الأولى للبرلمان تحترم معانيها وتلتزم بها، غير أن الاتساع السكاني أدى إلى تغييرات في خريطة السكان وتبدلات في نظام الانتخابات بصوت واحد، ومع هذه الظواهر انحسرت معاني الديموقراطية التشاركية وتم استبدالها بمنح الأولية لمستلزمات الفوز على حساب الاهتمام التنموي الجماعي.
وبوحي من هذه الأجواء، يتحدث سمو الأمير عن اضطراب المشهد السياسي، معرباً عن مخاوف من تصاعد التباعد وتضاعف حدة الخلافات، متطرقاً إلى الدستور الذي يقول عنه إنه وثيقة تقدمية تستجيب لمتطلبات الحياة، ومتغيراتها مع العمل على تأمين قدرته على استيعاب الظروف المستجدة، لكي يواصل دوره كأداة تحكم واقع الجتمع وتكويناته.
ومن الواضح بأنها دعوة لتأمين مرونة دستورية قادرة على التعامل مع التحولات والمستجدات، ومن هذا المؤشر نأمل أن تشهد المرحلة المقبلة التخلص من أثقال الإجراءات التي أدخلها الخبراء القانونيون في جسم الدستور، وسببت التعطيل وتولدت منها خصومات وتباعدات، وأبرزها اللائحة المختصة بالاستجواب، وهي مسرحية في شكلها وتخاصمية في نتائجها، ولا تتفق مع عادات وتقاليد أهل الكويت الطيبين الأصليين، كما يقول سمو الأمير.
فلا بد من إبعادها وكذلك إزالة المادة التي تشير إلى الوزير المحلل، فالتجارب أثبتت بقوة أن المحلل لم يحقق معاني المشاركة ووحدة المواقف، كما كان يتصوره الخبراء القانونيون وهي فائض غير مأمون الجانب.
هناك حقائق يتصاعد تأكيدها بقوة في خطابات سمو الأمير، الملاحظة الأولى، أنه حريص على الالتزام بأمن الكويت وسلامتها، ولن يقبل استغلال الديموقراطية لتحطيم هياكل الدولة، عبر التجاوزات التي تسبب الاضطرابات، ودقيق في متابعة سلوك مؤسسات الدولة، معبراً عن ضيقٍ من وصول الفساد إلى المؤسسات الأمنية والاقتصادية، وفوق ذلك، يثمن ثقة الشعب في حرصه على تحصين مصالحه وتأمين سلامته، واضعاً الكويت فوق الجميع، ولا يتردد في اتخاذ القرار الذي يراه مناسباً لمعالجة الأوضاع، وقراره الأخير في تجميد الحياة البرلمانية لأربع سنوات قوبل بالترحيب والتقدير من الكويت قاطبةً، على أمل أن تنطلق الكويت نحو التطور والتنمية دون عقبات وبمتابعة شخصية من قبل سموه.
* نقلا عن “القبس“