سوريالية
يوسف أبو لوز
أصبح العالم سوريالياً أو فوق سوريالي.. تراجيدياً أو فوق تراجيدي.. وأي خيال بشري هذا مهما كان خصباً أن يرسم صاحبه لوحة مذيع عربي يكاد يجهش بالبكاء وهو على الهواء مباشرة في نشرة تلفزيونية يعلن فيها موت شقيقه على يد مسلحين من ميليشيا الحوثي، فتساقطت دموعه بهدوء؛ لكن برجولية إنسانية شفافة.. وكان الخبر قد وصله وهو يقرأ نشرته الإخبارية، وبقي يؤدي عمله.. ومن ضمن عمله في تلك اللحظة المريرة أن يعلن لملايين المشاهدين خبر استشهاد أخيه.. «..رحم الله أخي وكل الشهداء..».. ثم نقطة دمع صغيرة آخر الخبر أو آخر السطر.
هل نتحول إلى مشهد عربي آخر؟.. وليكن هذه المرة من فلسطين.. إبراهيم أبو ثريا يفقد ساقيه في غارة «إسرائيلية» في العام 2012، فأصبح يتحرك بجسده المصاب على كرسي متحرك، وفي يوم جمعة الغضب الفلسطينية انتصاراً لعروبة وفلسطينية القدس والمسجد الأقصى يتضرج بالدم مكملاً بذلك سيرته البطولية، وهو يدفع كرسيه ويلقي الحجارة بلا ساقين؛ بل، بيدين من زيتون وزعتر.
قبل ذلك.. صورة المرأة الستينية، وهي تحتضن شجرة كما لو تحتضن ابنتها، وهي تحميها من أسنان البلدوزو «الإسرائيلي».. وصورة الطفلة ذات السنوات السبع وهي تحدق في فوهة البندقية.
صور الهياكل العظمية البشرية التي جففتها الملاريا في صنعاء.
صور الجحيم المتنقل في بغداد.. صورة شارع المتنبي.. شارع الكتب والمكتبجية والمكتبات وقد تحول إلى شارع يعج بالبطالين ومزيفي الأوراق الرسمية. صورة الطفل الكردي الملقى على شاطئ البحر وقد قذفت المياه جثته الصغيرة إلى حيث يمكن أن يراه العالم كله.
صورة أكلة الكرتون والصبار والكوشوك في مخيم اليرموك؛ حيث نشفت لقمة الخبز ومات القمح. صورة الجثث المصلية البريئة في بيت الله في سيناء. صورة الوجوه الملائكية لضباط شباب وسيمين حصدهم الإرهاب في سيناء أيضاً.. حيث روح المصري تشحنه بالقوة والإرادة.
عالم اليوم لا يحتاج إلى رسام أو شاعر أو روائي كي يوثق للوحة أو القصيدة أو الحكاية.. الحكاية في حبل الصور الذي يمتد من الصباح إلى المساء. حبل من الليف الخشن، وقد طرحت عليه قمصان الموتى إلى جوار قمصان الأحياء.
في الذاكرة الحكائية أن امرأة كانت تطبخ الحصى كي توهم أطفالها أنها تحضر لهم طعاماً ليسكت عنهم الجوع بالأمل والانتظار.. وفي الذاكرة الحكائية أيضاً أن كلبة كانت تعوي على القمر ظناً منها أن القمر رغيف خبز معلق في السماء.. واليوم، حقاً إنه الجوع، ولكن بشعور مختلف.. الجوع إلى احترام كرامة الإنسان، الجوع إلى حياة واقعية تماماً على أرض واقعية بلا خيال عنيف، وبلا تراجيديات الرعب والموت المتسلل بلياقة عالمية من الغرب إلى الشرق ومن الجنوب إلى الشمال. وترتيب هذه الجهات على هذا النحو.. ترتيب مقصود.