قضايا ودراسات

سياسات التقشف وبيع السلم الاجتماعي

كمال بالهادي

قبل سنوات قليلة ظهر في اليونان شاب هو ألكسيس تسيبراس زعيم جبهة «سيريزا» اليسارية، ووعد اليونانيين بأنه سيخلّصهم من قيود الاتحاد الأوروبي ومن شروط الدائنين، وبأنه لن يسمح بفرض سياسة تقشفية على شعب يعاني الفقر والبطالة. غير أنه وبعد نحو شهر فقط من تسلّمه مقاليد الحكم في اليونان، سارع تسيبراس لتطبيق الإصلاحات الاقتصادية المفروضة على بلده من طرف خيمة بروكسل، ومن طرف صندوق النقد الدولي. وهو إلى الآن يقود بلده وسط احتجاجات مستمرة من طرف اليونانيين على سياسات التقشف التي أرهقتهم، وضاعفت من أزماتهم الاجتماعية.
وفي فرنسا خرج ماكرون من رحم الحزب الاشتراكي الفرنسي، أحد أعرق الأحزاب اليسارية في أوروبا وفي العالم، وقاد حملته الانتخابية على وعود إعادة الحياة لاقتصاد فرنسا وإعادة النمو إلى مساره الطبيعي، ونما الاقتصاد الفرنسي في سنة 2017، بنسبة 1.9 في المئة، وهي نسبة تعتبر الأفضل في السنوات الست الأخيرة. ولكنها تبقى دون المأمول ودون طموحات الشعب . ولم تكن الاحتجاجات الأخيرة سوى رفض لسياستي التقشف ورفع الضرائب التي تم فرضها مؤخراً . غير أنّ هناك دولاً أخرى اختارت أن تسير في مسار معاكس، بعد أن جرّبت وخبرت أن سياسات التقشف لا يمكن أن تؤدّي إلاّ إلى مزيد من الركود الاقتصادي. في بريطانيا مثلاً، اختارت حكومة تيريزا ماي، أن تصوّت على موازنة غير تقشفية، وأن تدعم النمو بدل سياسة فرض الضرائب، وبهذا تشتري سلماً اجتماعياً، بدل زيادة الضغوط على المواطنين. فقد ناقش مجلس العموم البريطاني في مطلع نوفمبر الجاري، تصويتاً حول خطة الميزانية التي قدّمها وزير الخزانة فيليب هاموند، والتي تضع تصوراً لإنهاء سياسات التقشف. وتقوم التصوّرات على خفض كبير للضرائب وضخّ للأموال النقدية في نظام الرعاية الصحية الحكومي، وزيادة الدعم المالي لقطاعات الدفاع والتعليم والبنية التحتية.
وكان استطلاع رأي أجرته صحيفة (الإندبندنت) البريطانية ونشرت نتائجه منذ أيام قليلة، أشار إلى أن ما يقرب من 80% من الشعب البريطاني يعتقدون أن موجة التقشف المطبّقة على قوات الشرطة البريطانية جعلتهم يشعرون أنهم غير آمنين في الشوارع البريطانية. وبالرغم من أنّ توقّعات النمو في بريطانيا ليست مرتفعة، حيث وضعت حكومة ماي، نسبة 1.9 في المئة كنسبة قصوى للنمو في العام القادم، إلا أنها اختارت أن تنهي سياسة التقشف المطبّقة في البلاد منذ نحو عشر سنوات. واعترفت الأمم المتحدة بأنّ سياسات التقشف تؤدّي إلى البؤس والفقر، حيث قال فيليب ألستون، المبعوث الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة، إن «السياسات التقشفية والعقوبات التي فرضتها الحكومة البريطانية على شعبها ألحقت البؤس بشعبها». وكان فيليب ألستون، مقرر الأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، أنهى بعثة لتقصي الحقائق التي استمرت لمدة أسبوعين في المملكة المتحدة بإعلان صادم، مؤكداً أنه على الرغم من أن المملكة المتحدة تعد خامس أكبر اقتصاد في العالم، لكن مستويات فقر ارتفعت وأصبحت وصمة عار وكارثة اجتماعية وكارثة اقتصادية.
هذه الحقائق الصادمة هي التي دفعت إيطاليا إلى التغريد خارج سرب سياسات التقشف، فالمسؤولون في الحكومة الإيطالية يخوضون هذه الأيام صراعاً قوياً مع بروكسل، بسبب رفض الإيطاليين الاستمرار في فرض سياسات التقشف التي اعتمدتها الحكومات الإيطالية المتعاقبة والتي أدّت إلى سقوطها الواحدة بعد الأخرى. ويبدو أن الحكومة الإيطالية مستعدّة لتقبّل كل العقوبات على أن تفرط في السلم الاجتماعي، فهي وإن كانت تواجه أزمة دين عمومي ضخمة، إلا أنها تريد الخروج من جبّة سياسات صندوق النقد وإملاءاته. فالسلم الاجتماعي قد يكون هو قاطرة النمو الحقيقية.

belhedi18@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى