قضايا ودراسات

سياسة ترامب والقطيعة مع أسلافه

د. غسان العزي

منذ دخوله البيت البيض في يناير/كانون الثاني 2017، بل قبل ذلك خلال حملته الانتخابية، دأب دونالد ترامب على تقديم نفسه بأنه يمثل قطيعة فعلية تامة مع سياسات أسلافه في السياستين الداخلية والخارجية على حد سواء. لكن بعد سنتين تقريباً على تسلمه الحكم هل أحدث ترامب بالفعل وليس فقط بالقول هذه القطيعة التي وعد؟
في الحقيقة هناك قطيعة فعلية واضحة من حيث الأسلوب والتصريحات والتصرفات الخارجة عن المألوف. فترامب يسعى، وقد نجح في مسعاه كي يبدو غريباً مختلفاً عصياً على التوقع، ونرجسياً عندما قارن نفسه بنيرون. لكن رغم كل الغرابة المحيطة بشخصيته من الخطأ وصفه بالمهرج؛ إذ إن المصادفة ليست وحدها التي أوصلته إلى السلطة، بدليل نتيجة انتخابات الكونجرس النصفية التي عززت أغلبية الحزب الجمهوري في الكونجرس، والتي فاز فيها مؤيدو ترامب داخل هذا الحزب وتراجع منتقدوه. لقد انتُخب الرجل في العام 2016 بفضل أصوات الولايات، رغم أن هيلاري كلينتون تفوقت عليه بثلاثة ملايين صوت، وانتخابات الكونجرس الأخيرة أعادت تكريس مثل هذه النتيجة؛ إذ يمكن القول إنه فاز مجدداً بأصوات الولايات، الأمر الذي يجعل من التجديد له لولاية ثانية في العام 2022 أمراً محتملاً.
من الناحية العملية لم يأتِ ترامب بجديد يقطع مع أسلافه في سياسته الخارجية، والتي تمثل خليطاً من «الجاكسونية» نسبة إلى الرئيس الشعبوي أندرو جاكسون (1829-1837)، الذي حارب الإنجليز متطلعاً إلى مجد بلاده وعظمتها في الخارج، ودافع عن «مصالح الشعب» في وجه النخب في الداخل، و«الهاملتونية» نسبة إلى وزير الخزانة والسياسي النافذ ألكسندر هاملتون (العقد الأخير من القرن 18)، الذي أعطى الأولوية إلى المسائل الاقتصادية والتجارية. أدار ترامب ظهره للجيفرسونية (الرئيس توماس جيفرسون 1801-1809)، التي طالما قدمت أمريكا أنموذجاً يحتذى في قيم الديمقراطية والحرية، وللعالمية الليبرالية التي مارسها كل من وودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت، وحتى المحافظين الجدد الذين أرادوا فرض الديمقراطية بالقوة.
ترامب يعطي الأولوية للمصالح وليس للقيم. بهذا المعنى يتبنى المقاربة الواقعية البراغماتية الكيسنجرية، من دون أن يذهب بعيداً في واقعيته التي تذهب أحياناً في غير اتجاه ميوله السيادوية والانعزالية التي لطالما كانت قوية في التاريخ الأمريكي، والتي تمثلت على سبيل المثال، برفض الكونجرس إبرام معاهدة فرساي في العام 1919، أو دخول الولايات المتحدة في عصبة الأمم. شعار ترامب «أمريكا أولاً» يذكر بالحركة التي قامت عشية الحرب العالمية الثانية رفضاً للدخول في الحرب، وذلك تحت شعار الأولوية للمصلحة الأمريكية، ولو على حساب الدفاع عن القيم والحلفاء الذين يحملون مثل هذه القيم. هذه النزعة السيادوية الانعزالية واضحة في مناهضة ترامب للتعددية، وانسحابه من عدد كبير من الاتفاقات والالتزامات الدولية مثل اليونيسكو، ومجلس حقوق الإنسان، واتفاقية باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني، ومعاهدة الأسلحة النووية المتوسطة مع روسيا والنافتا، إلخ.
لكن ترامب رغم ذلك كله لا يستطيع أن ينأى ببلاده عن هذا الحجم الهائل من الارتباطات والاعتمادات المتبادلة في العالم بين الدول في التجارة والاقتصاد والأمن وغيره. فهو مضطر للتعامل مع هذا الواقع، رغم أنه يفعل بطريقة أحادية قدر الإمكان، مع السعي وراء المصلحة الأمريكية تحديداً. هذه الأحادية ليست جديدة، وهي من نتائج فائض القوة الأمريكي، والذي أضحى واضحاً جداً بعد نهاية الحرب الباردة. لكن مشكلة الأحادية من دون قيم أنها تنتهي إلى قومية مفرطة ويمينية شعبوية متطرفة. هذا ما كانت عليه تقريباً سياسات المحافظين الجدد إبان عهد بوش الابن رغم شعارات الحرية والديمقراطية التي رفعتها، لكن هذه النزعة ترسخت مع ترامب، بل أضحت«معدية»؛ إذ إنها بصدد الانتشار في أوروبا وروسيا والهند وتركيا وإيران و«إسرائيل» وحتى البرازيل. وهي تهدد التحالف الغربي نفسه، والذي قام على قيم الديمقراطية والتعددية.
الشعبوية، البراغماتية، الواقعية، السيادوية، الانعزالية، القومية، الأحادية..إلخ. التي تتصف بها سياسات ترامب ليست جديدة البتة، كذلك السعي الدائم الدؤوب للمحافظة على التفوق الاستراتيجي الأمريكي في الساحة الدولية. لكن الجديد هو هذا الخليط من العناصر المجتمعة في شخصية غريبة الأطوار، وفي عالم يرقص على فوهة بركان. الجديد أيضاً هو هذا الاستقطاب الحاد بين الحزبين الأمريكيين، أي بين «أمريكتين» واحدة قومية انعزالية أنانية ترفض العولمة، وأخرى منفتحة معتدلة ومنخرطة في هموم العالم وهواجسه. هذا الاستقطاب الحاد والذي يجسده التناقض بين شخصيتي أوباما وترامب يجتاح العالم الغربي لاسيما أوروبا التي تتخبط اليوم في حبائل البريكست وصعود الأحزاب الشعبوية.

زر الذهاب إلى الأعلى