شعراء.. ومطر
يوسف أبو لوز
اشتهر بدر شاكر السيّاب بقصيدة «أنشودة المطر» مع أن مفتتح القصيدة هو النخيل.. «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر// أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر». والاستعارة في «عيناك غابتا نخيل» واضحة فغابة النخيل لشدة كثافة خضرتها تبدو سوداء، ويطلق على العراق «أرض السواد» لكثرة ما فيها من نخيل.. وأخيراً أراد السيّاب القول إن عيني المرأة التي يخاطبها بالغتا السواد.. ولكن أين المطر؟؟
إنه بعد مقدمة النخيل هذه مباشرة.. «.. مطر//.. مطر..//.. مطر.. تثاءب المساء، والغيوم ما تزال..//.. مطر.. //.. مطر..» في القصيدة إلى أن تصبح لازمة «مائية».
هل كتب بدر شاكر السيّاب هذه القصيدة في الشتاء؟؟ ليس بالضرورة؛ ذلك أن الشاعر يطوي الزمن ويكثفه في اللغة، كما يشاء مشدوداً دائماً إلى شتائه الداخلي.. الافتراضي والنفسي، وما من شعر ليس فيه ماء أو «شتاء» إلا ويكون شعراً خشبياً.. روحه ميتة.
في قصيدته «اولد واحترق بحبي» يقول عبدالوهاب البياتي:
«.. استنجد بالحرس الليلي لأوقف في ذاكرتي
هذا الحب المفترس الأعمى، هذا النور الأسود
محموماً تحت المطر المتساقط
أطلق في الفجر على نفسي النار..».
العام 1995 إذا لم تخن الذاكرة، كان المطر يتساقط بغزارة، كان البياتي ينتظرني أسفل إحدى العمارات في العاصمة الأردنية عمّان بمعطف أسود طويل فوق بدلة زرقاء وربطة عنق. وسوف يتساقط الثلج في تلك الليلة الشتوية التي أمضيناها في ضيافة عبدالله حمدان؛ حيث المدفأة التي لم تكف عن الاحمرار.. والثلج يتساقط في الخارج.. قصيدة بيضاء.
من شعراء المطر أيضاً.. الفرنسي «جاك بريفير» باريس في شعره مبللة. والأرصفة مبللة. الورد مبلل، والنساء، والعربات.. «ارتدى معطف الشتاء لأن المطر كان يهطل..//.. وانصرف تحت زخات المطر دون كلمة..//.. دون أن ينظر إلي..//.. وأنا وضعت رأسي بين يدي وبكيت..» ترجمة د. خليل الموسى.
الشعراء بحّارة، وجوالون تحت الغيوم، رفاق للينابيع وجيران للغدير والبحيرة والشلال. من فضة الماء استعاروا البرودة الناعمة. وعلى الزرقة الشفافة المتماوجة كتبوا أسماءهم.
كل غيمة، بالنسبة للشاعر هي مشروع قصيدة كأن الشاعر دائم النظر إلى أعلى..، إلى حيث هدية السماء المائية.. تماماً مثل المزارع الذي يضع كل أحلامه في الغيوم.
المطر قرين الطفولة. الزائر الكريم للكروم والحقول. له إيقاع ووزن ولحن. ينظف القلوب ويبعث المسرة حتى في الحجر. المطر هو الشعر. الأغنية الحريرية المهداة للطفل والشجرة والطريق.
أبجدية من ماء عرف سر حروفها الشاعر والمزارع.. الأول يبذر والثاني يحرث، وأنت ترتدي الشتاء… لا معطف الشتاء.
yabolouz@gmail.com