غير مصنفة

شيء جوهري ما قد تغيّر

محمود الريماوي

دأب مسؤولون أمريكيون على زيارة منطقتنا، من دون أن يكون لهذه الزيارات أثر ملموس في العلاقات العربية – الأمريكية التي ظلت متينة رغم الفجوات في بعض المواقف بين الجانبين. على أن الزيارة المرتقبة لنائب الرئيس مايك بنس للمنطقة ابتداء من الغد الثلاثاء كما هو مقرر، تحمل مغزى خاصاً، فهي الزيارة الأولى لمسؤول أمريكي بعد قرار الرئيس ترمب في 6 ديسمبر الجاري، الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال. الزيارة مختصرة وتقتصر على القاهرة وتل أبيب، وكان من المقرر أن تشمل رام الله، لكن الموقف الفلسطيني الرافض لاستقبال مسؤولين أمريكيين(في هذه الفترة على الأقل..) بمن فيهم نائب الرئيس، جعل بنس يلغي زيارته لفلسطين وسبق ذلك إبداء الأسف في واشنطن على الموقف الفلسطيني «السلبي». وهي من المرات النادرة التي يتم فيها رفض استقبال مسؤول أمريكي، وخاصة على هذا المستوى الرفيع الذي يمثله نائب الرئيس.
في واقع الأمر إن موقف السلطة الفلسطينية يعكس الشعور بالصدمة الهائلة إزاء الموقف الأمريكي من القدس المحتلة. كما يعكس تجاوب السلطة مع سخط الشارع الفلسطيني على القرار الذي لم يُقدم عليه الرؤساء الأمريكيون السابقون منذ العام 1995، رغم أنهم لم يكونوا أقل انحيازاً لتل أبيب من الرئيس الحالي ترامب، لكنهم كانوا يراعون الحد الأدنى من التزاماتهم تجاه الشرعية الدولية.
يتردد عن مايك بنس الذي ظهر خلف ترامب وهو يلقي بشيء من التعلثم قرار الاعتراف، والأصح التسليم بالقدس عاصمة للاحتلال، أنه كان أحد أفراد حلقة ضيقة أقنعت الرئيس باتخاذ هذا القرار الذي لا سابق ولا سند له. والحجّة الروتينية والدائمة أن الإقدام على هذه الخطوة سيعطي هامشاً أكبر للإدارة لأن تطلب من حكومة نتنياهو ما تريده الإدارة بخصوص ملف العملية السلمية. والواقع أن السياسة الأمريكية حيال منطقتنا تقوم منذ أمد بعيد على هذا المنطق: استرضاء المتغطرسين بمنحهم كل ما يريدون سياسياً ودبلوماسياً ومالياً وعسكرياً، بدعوى أن هذا السخاء من أموال دافعي الضرائب، سوف يتيح فرصة أكبر للتأثير الأمريكي على ساسة «تل أبيب». وهو منطق أعوج، إذ إن استرضاء المعتدين والتوسعيين لا يزيدهم إلا شراهة على العدوانية والتوسع. ومنذ مطلع الألفية الثالثة فإن «تل أبيب» تمضي قُدُماً نحو أقصى التطرف وتقوم برعاية وتخصيب الاتجاهات الأشد تطرفاً في المجتمع.
في مصر سوف يسمع المسؤول الأمريكي بالإضافة إلى الموقف الرسمي، دواعي رفض شيخ الأزهر وبطريرك الأقباط لاستقباله. علماً بأن مايك بنس (58 عاماً) يصف نفسه كما يُنسب إليه بأنه: مسيحي، محافظ، جمهوري.. على الترتيب. لكن الزعامة الروحية للمسيحيين في مصر ترفض بصورة باتّة أن تقوم واشنطن بإهداء القدس إلى من يعتبرون المدينة المحتلة مُلكاً لهم، وبغير أي اعتبار للوجود التاريخي: الإسلامي والمسيحي وللهوية العربية للقدس. أما العملية السلمية والادعاءات بالاستعداد لتحريكها، فمن الأفضل ومن المنطق عدم الحديث أمريكياً بهذا الشأن، وببساطة لأن الأمر ينطوي على مزيد من الاستفزاز والاستخفاف بالآخرين، يُضاف إلى ما يزخر به القرار حول القدس من استفزاز، فواشنطن وضعت بصورة مسبقة نهاية ونتيجة لأية مفاوضات حين انتزعت المدينة الفلسطينية المقدسة من جدول التفاوض، مع أنها من أهم محاوره.
ورغم أن العلاقات العربية – الأمريكية متشعبة وقديمة وتتعلق بأوجه عديدة من التعاون الثنائي والمشترك، إلا أن الموقف الأمريكي الأخير، أيقظ المشاعر العربية مجدداً حيال الانحياز الأمريكي المفرط لدولة الاستيطان والاحتلال، وهو ما ينعكس على مناخ العلاقات العربية مع واشنطن، ويهز ركائز الثقة، ويثير المخاوف من تغذية موجات التطرف في الجانب «الإسرائيلي». ودواعي الصراحة تقتضي القول إن القرار نفسه حيال القدس يحمل شحنة كبيرة من التطرف، خلافاً لما هو مُنتظر من دولة عظمى من المفترض أنها تقوم برعاية العدل والسلم والأمن في عالمنا، كما تزعم.
ولهذا تبدو زيارة المسؤول الأمريكي الرفيع فاقدة الجاذبية من الناحية السياسية، تحف بها التوقعات المنخفضة، بعد أن انكسر شيء جوهري ما يصعب إصلاحه وينتمي إلى صميم العلاقات بين الدول كبيرها وصغيرها وهو عامل الثقة حتى لو كانت هذه الثقة نسبية!
وكما أن الإدارة الحالية قد صادفت في «نفسها»، الجرأة على اتخاذ قرار خاطئ من جميع الوجوه، فإنه لا شيء يمنعها من التحلي بالجرأة مرة أخرى وفي الاتجاه المضاد والسليم، وذلك بالتراجع عن هذا القرار الطائش الذي لم يجد أحداً في العالم يسانده، سوى أولئك المتفرغين في «تل أبيب» لتقويض العملية السلمية، ومواصلة الغزو الاستيطاني، وشحن الصراع بعوامل التوتير وثقافة الكراهية وإنكار حقوق الآخر، وحتى إنكار وجوده على أرضه عبر القرون.

mdrimawi@yahoo.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى