صفعة بصفعة
محمد القبيسي
بعض الأشخاص لا شاغل لهم في الحياة سوى الاستهزاء بالآخرين والسخرية منهم، ذلك أنهم يفتقرون إلى الثقة بأنفسهم ويحسدون كل ناجح على نجاحه، فما إن يروا إنساناً متميزاً حتى يسارعوا إلى إهانته، ظنَّاً أنهم بفعلتهم تلك يرفعون من قدر أنفسهم في عيون الغير ويصبحون محطَّ أنظار الجميع.
ولا شك أنه في مرحلة ما من حياتنا لا بدَّ أن نتعرَّض إلى واحد أو أكثر من المواقف التي يحاول فيها أحدهم التنمُّر علينا والتقليل من شأننا، ولا بدَّ أن مثل تلك التجارب المؤلمة تثير في دواخلنا مشاعر سلبية قد تستمر حتى آخر العمر لشدة وقعها على النفس. قال الكاتب الإسباني بالستار غراثيان: «السهم يغرز بالجسد لكن الإهانة تخترق الروح».
ولقد أخرج لنا الغرب العديد من الفلاسفة والأدباء وأصحاب العقول الفذَّة الذين أتحفوا العالم بذكائهم وحنكتهم في الرد على من يحاولون السخرية منهم والتطاول عليهم، من أبرزهم الكاتب المسرحي جورج برنارد شو الذي كان له النصيب الأكبر في الردود المفحمة والذكية على كل من يهاجمه، والذي امتاز بأسلوبه الفريد في الكتابة والحديث حتى سمّي بــ “الكاتب الساخر”، وقال عن نفسه: «إن أسلوبي في المزاح هو أن أقول الحقيقة، وعندما يكون الشيء مضحكاً فإنني أبحث عن الحقيقة الكامنة وراءه».
من طرائف برنارد شو في الرد على الآخرين أنه في إحدى المناسبات اعترضه كاتب مغرور قائلاً: أنا أفضل منك، فأنت تكتب بحثاً عن المال، أما أنا فأكتب بحثاً عن الشرف.
فرد عليه برنارد شو: صدقت، فكلٌّ منَّا يبحث عمَّا ينقصه!
وفي مناسبة أخرى قال وزير بريطانيا السمين تشرشل لبرنارد شو النحيل: من يراك يظن أن بريطانيا في أزمة غذاء! فقال له برنارد: ومن يراك يعرف سبب الأزمة!
لما مثّلت ملهاة برنارد شو ” كانديدا” على أحد مسارح لندن، صفق لها الجمهور تصفيقاً حاداً وتهافت الناس لتهنئته، غير أن سيدة مسنَّة غريبة الأطوار التقته وهو خارج من المسرح فقالت له:يا برنارد شو إن ملهاتك لم تعجبني إطلاقاً.
فقال لها: وأنا كذلك لم تعجبني، ولكن ماذا بوسعنا أنا وأنت وحدنا أن نفعل إزاء هذا الجمهور الغفير المعجب بها حتى الهوس!
هناك واحدة من قصص العصر الحديث تروي موقفاً تعرَّضت له سيدة سمينة جداً بعد ركوبها إحدى حافلات النقل العام، حيث أهانها أحد الرُّكاب بقوله: لم أعلم أن هذه الحافلة مخصصة للفيلة.
فردَّت عليه السيدة قائلة: لا يا سيدي، هذه الحافلة كسفينة نوح، تركبها الفيلة والحمير أيضاً!
وفي الثقافة العربية تعدُّ الفصاحة جزءاً لا يتجزأ من تركيبتها وبنيانها، حيث كان الرجل في قديم الزمان يعلو شأنه لفصاحة لسانه وقدرته على الردّ على خصومه ممَّن يحاولون إهانته بالحكمة والدهاء، وفي التاريخ العربي عشرات القصص التي بوسعنا أن نتعلَّم منها فن الرد على الإهانة، كقصة جحا الذي أقبل في أحد الأيام على قرية فجاءه رجل وقال له: لم أعرفك يا جحا إلَّا بحمارك!
فردَّ عليه جحا: الحمير تعرف بعضها!
ويُحكى أن رجلاً أراد إحراج المتنبي فقال له: رأيتك من بعيد فظننتك امرأة!
فقال المتنبي: وأنا رأيتك من بعيد فظننتك رجلاً!
وذات مرة سأل رجل فظٌّ الأعرابي الأعمى بشار بن برد: ما أعمى الله رجلاً إلَّا عوضه، فبماذا عوضك؟
فأجاب بشار بن برد: عوضني بألَّا أرى أمثالك!
أما من القصص الطريفة المتداولة أن رجلاً قال لامرأته: ما خلق الله أحب إليَّ منكِ.
فقالت: ولا أبغض إليَّ منك!
فقال: الحمد لله الذي أولاني ما أحب وابتلاكِ بما تكرهين.
ويُروى على لسان البعض أن شاباً استهزأ بعامل نظافة فقال له: يا مدير، بكم ثمن كيلو الزبالة عندك؟
فرد عليه العامل: تذوَّقها ولن نختلف على السعر!
يعدُّ التجاهل بشكل عام سلاحاً فعَّالاً في مواجهة الكثير من المستهزئين، لأن المستهزئ في الغالب شخص قليل الثقة بنفسه، وتجاهلك إيَّاه سيجعله يشعر بالغضب وبأنه دون قيمة كأنه غير موجود على الإطلاق، وإن عدم ردّك في بعض المواقف يعطي انطباعاً عند الآخرين بأنك شخص قوي لا يعير اهتماماً لأي أحد يحاول النيل منه والحطَّ من شأنه.
لكن في مواقف أخرى يكون الردُّ لازماً وضرورياً، لأن السكوت عندها قد يجعلك تبدو بموقف ضعيف ويزيد الطين بلة، لذلك كان من الأهمية بمكان أن نتعلَّم كيفية الرد على السخرية بأسلوب حضاري دون اللجوء إلى العنف اللفظي أو الجسدي، ولنا في قصص الحكماء وطرائف الأدباء وحنكة العباقرة والأذكياء خير مرجع ودليل.