ضبابية المجتمع المدني
د. حسن مدن
من عاداتنا، في العالم العربي، الولع بالموضات والتقليعات السياسية والفكرية التي تردنا متأخرة، في الأغلب الأعم، من سياقات سياسية وثقافية أخرى، غربية في الأغلب، فنؤخذ بها، ونكررها من دون تمعن في محتواها، والتفكر في التطبيق الخلاق لها على ظروفنا الخاصة.
الأمثلة لا تُعد ولا تحصى في هذا المجال، لكن حديثنا اليوم سيدور عن صورة من صور ولعنا بالمفاهيم، من دون أن نسعى لتجليسها في بيئتنا، لأن أشكال تجليها عندنا لا يمكن أن تكون صورة طبق الأصل، أو بالحذافير، لصور تجليها في مجتمعات أخرى تختلف عنا، كثيراً أو قليلاً، في ملابسات تطورها السياسي والثقافي والاجتماعي، ونعني بذلك طريقة تعاطينا مع مفهوم المجتمع المدني الذي يجري اجتراره بالكثير من السطحية، وعدم التمعن.
نحن من دعاة أن يكون هناك مجتمع مدني مستقل وفعّال في البلدان العربية، غير تابع للحكومات ولا يأتمر بأوامرها، من دون أن يعني هذا، بصورة آلية، أن يكون على خصومة مع الدولة، وإنما يؤدي دوره في الحياة السياسية والاجتماعية للبلد المعني، موجهاً ورقيباً ومُرَّشِداً لأداء السلطة التنفيذية، ولكن يجب ألا يترتب على ذلك «تقديس» كل ما يمت للمجتمع المدني بصلة، إزاء «شيطنة» كل ما يمس للدولة بصلة.
المجتمع، أي مجتمع، لا يمكن أن يكون متجانساً، فهو «خليط» من أفكار ومصالح ومواقف ورؤى، وينطوي على مخزون هائل من المتناقضات بطريقة لا تسمح بأن تكون قوى مجتمعه المدني متجانسة، وبالتالي فإنه لا يمكن لنا توقع أن تؤدي كل هذه القوى دوراً حداثياً أو تنويرياً، إزاء دور نقيض تؤديه الدولة، بل قد يحدث العكس تماماً، حين يكون دورها معيقاً لبرامج التحديث التي تتبناها أجهزة الدولة، أو بعضها.
ليس كل ما هو خارج الدولة أكثر «تقدمية» منها بالضرورة، وليس أي «تأطير» يهدف للحد من دور الدولة هو في خدمة مصالح الأغلبية الساحقة من أفراد المجتمع، فالأمر لا يتصل بالشق السياسي وحده، وإنما يطال أيضاً البعد الاجتماعي – الاقتصادي.
وعلى سبيل المثال، إذا كان دور القطاع الخاص مهماً في النهوض بالوضع الاقتصادي في المجتمع، لكن يمكن للقطاع الخاص أيضاً أن يدرج نفسه في نطاق ما يوصف ب«المجتمع المدني» عبر الهيئات الممثلة له، كغرف الصناعة والتجارة مثلاً، أو جمعيات التجار والمقاولين، أو سواهم، مطالباً الدولة بالتنحي عن التزاماتها الاجتماعية تجاه مواطنيها.
إن حدث هذا سيبدو، ظاهراً، أنه يصب في مصلحة تعزيز دور المجتمع المدني إزاء الدولة، وحدّاً من سطوتها، ولكن عائد ذلك، وإن خدم الشريحة المطالبة به، فإنه قد يلحق أشد الأضرار بقطاعات شعبية واسعة ترى أن الدولة مسؤولة عن تأمين خدمات أساسية لها في التطبيب والتعليم والإسكان، وفي دعم أسعار السلع الحيوية، لا أن يترك الأمر لمنطق السوق وحده من دون ضوابط.
madanbahrain@gmail.com