قضايا ودراسات

طاولة ومقعد فارغان

يوسف أبولوز

اختلفت أدراج عمّان وسلالمها الحجرية كما اختلفت مقاهيها وأسواقها، فيما عدا أسواق الثياب المستعملة، وتسمّى هذه الأسواق في الأردن (البالة)، ولعل الاسم يعود إلى الثوب البالي، وهذه الثياب لم يطلها البِلى الكامل، بل بعض أسواق (البالة) يتردد عليها أناس ميسورو الحال؛ إن لم يكن بعضهم في درجة الأغنياء.
وفي تأمل الثوب البالي ما يشي حتى بتداعيات ثقافية، فأنت تشتري، معطفاً مستعملاً كان قد ارتداه شخص آخر يتبع ثقافة أخرى، ولكنه الآن يشبهك وأنت ترتدي معطفه القديم؛ بل وربما تمثله وتتقمّصه.
فربما كان رساماً، أو موسيقياً، أو جنرالاً متقاعداً، وقد رحل المعطف القديم مع الرجل الذي اختار هذا المعطف، ومشى به تحت المطر، أو دلف به إلى المطعم، والثوب يتساقط في الخارج.
هكذا تتبادل البشرية الثياب، بل وهكذا تهاجر الثياب من بلد إلى آخر، ومن طقس إلى طقس، ومن رجل إلى رجل بطبيعة صامتة وقماش صامت، هو إجمالاً قماش الفقراء الذين لن يكون في وسعهم أن يفعلوا شيئاً آخر لأطفالهم، الذين يرتدون ثياب أطفال آخرين. وفي صورة أخرى تدبّ الحياة في الثوب البالي المهمل المتروك، ما إن يرتديه رجل أو امرأة يمشيان تحت المطر أو تحت الشمس وهما يثرثران، ويضحكان، وقد عقد كل منهما يده في يد الآخر في الطريق إلى المقهى، أو إلى الوظيفة أو الجامعة، وإنها ببساطة، الحياة في مكان آخر، إذا أردنا استعارة هذه العبارة من الروائي ميلان كونديرا.
تنتشر في عمان أيضاً ظاهرة أكشاك بيع الكتب المستعملة: روايات كلاسيكية نادرة، مجموعات شعرية وقصصية، وكتب فلسفات وأيديولوجيات مستعملة هي الأخرى، رأس المال، الثورة والثورة المضادة، وأربع مقالات في الحرية.
كتب دسمة، ولكن صلاحيتها الزمنية والثقافية والفكرية انتهت تماماً، كما تنتهي صلاحية علبة سردين، إذا تناولتها تتسمم. وبعض الكتب المستعملة كانت مسمومة بأفكار حمراء، انتهت صلاحيتها مثل السردين المعلب، بل بعض الكتب معلبة هي الأخرى، وكل ذلك يمكنك أن تعاينه في سوق الكتب المستعملة القريبة من سوق الزي المستعمل، لكن أجمل ما في هذه الكتب، تلك الملاحظات والهوامش التي يتركها القارئ القديم على حواف الصفحات..
ملاحظات أغلبها بقلم رصاص قابلة تماماً للمحو.. إنه محو القارئ الجديد للكتاب القديم، وما كنت تقرأه في الأربعينات والخمسينات والستينات، يمكن أن تقرأه اليوم برؤية مختلفة كلياً عن الرؤية القديمة، ولك أن تقرأ وتمحو.. والمحو أيضاً في حد ذاته هو كتابة.
أصعد في الظهيرة إلى مقهى «السنترال» في قلب العاصمة عمان. أطلب كوب قهوة وكأس ماء. أمامي جريدة كنت أعمل بها ذات يوم، وذات يوم نشرت فيها شعراً من أولى قصائدي وأفك ﻻ للتو في الفرق بين القصيدة والشعر وسيأخذك قلبك إلى أوائل الثمانينات من القرن العشرين. إلى ذلك الشاب المندفع بدمه الحار إلى الحياة والأصدقاء. إلى الشعر الذي كنت تبحث عنه في كتاب الشعر المستعمل.
وفي الرواية المستعملة وأنت في زغب العشرين من عمرك آنذاك، والآن أمامك فنجان قهوة مرّة وكأس ماء بارد.. وفي «السنترال» رجال مكتهلون. على كل طاولة رجلان، أو ثلاثة.
رجال يتبادلون الصمت أكثر ممّا يتبادلون الكلام. البعض يلعب النرد، والبعض يلعب الورق، وأنت لا تلعب هذا ولا تلعب ذاك.
تقرأ الجريدة، وتقرأ حياتك أيضاً.. ذات يوماً كنت بعتَ كتباً مستعملة، واشتريت معطفاً مستعملاً، ومشيت وحيداً تحت المطر في الطريق إلى امرأة تنتظرك في «السنترال»، وها هي طاولتها فارغة، ومقعدها فارغ.

yabolouz@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى