مقالات عامة

طقوس همنجواي

د. حسن مدن

«زرافة من الخشب، سلحفاة من الحديد، نماذج لقطارات، دب بمفتاح زمبركي، جيتار صغير، نموذج لطائرة حربية ذات جناحين»، وربما أيضاً قرون لجاموس وحشي.
هذه بعض التذكارات التي كان أرنست همنجواي، الكاتب الأمريكي الشهير، يحرص على الاحتفاظ بها فوق طاولة مكتبه. ولهذه التذكارات، على الرغم من صغر حجم أغلبيتها، أهميتها الخاصة في نفس الكاتب، وبتعبيره فإن «رؤية هذه الأشياء تبهجني»، ومع إدراكه لعدم عقلانية الاحتفاظ بهذه التذكارات، لم يكن يفضل الخوض في تفاصيل ذلك، تماماً مثلما لا يفضل الخوض في تفاصيل الكتابة، ليس لأنه متحدث غير جيد، فهو على عكس ذلك متدفق في الكلام، وصاحب نكتة، ولديه ذخيرة غنية من المعارف تمكنه من الحديث في تفاصيل أمور كثيرة، لكن بالنسبة إلى الكتابة فإنه يرى أن فيها جزءاً متماسكاً وصلباً لا يمكن للمرء أن يصيبه بأي ضرر مهما تحدث عنه، بينما الجزء الآخر هش وضعيف، بحيث إنك إذا تحدثت عنه تتصدع بنيته، ولا يبقى منه أي شيء.
والمدهش أنه لم يكن يستخدم هذه الطاولة للكتابة، رغم أنها تمنحه مساحة أوسع، بل يتركها مزدحمة بالأوراق والكتب المكدسة بشكل غير مرتب ومتنافر: روايات، كتب تاريخية، مجموعات شعرية، مسرحيات ومقالات. ونظرة على عناوين هذه الكتب تظهر مدى تنوعها، فهناك مؤلفات فرجينيا وولف، وتشارلز بيرد، وشكسبير وإليوت، وغيرهم.
لا علاقة للحديث هنا بمكان الكتابة الذي تناولناه هنا قبل يومين، أو ثلاثة، وإنما بما يمكن أن نصفه طقس الكتابة، حيث نقع على ما هو غريب في طريقة كتابة همنجواي، الذي كان يفضل أن يكتب وهو واقف، منتعلاً نعليه الكبيرتين، ومستخدماً دائما القلم الرصاص عند شروعه في الكتابة على أوراق شفافة مقواة، يحتفظ، دائماً، بكميات كافية منها مثبتة على مشبك قريباً من آلته الكاتبة.
ولم يكن همنجواي يولي عناية بعلامات الترقيم كالنقط والفواصل، وفي الأغلب فإنه ينهي الجملة بعلامة (x)، بعد ذلك ينتقل للآلة الكاتبة، ليعيد تدوين ما كتبه بالقلم الرصاص عليها، وفي بعض الحالات يتجاوز، أو يطور، أو يغير ما كان كتبه في البداية على الورق.
قد توحي هذه التفاصيل بأن الفوضى تطبع حياته اليومية، بما فيها طقوس كتابته، إلا أننا نعثر على معلومة مهمة تظهر مدى الصرامة التي كان يوليها لعلاقته مع الكتابة، فهو كان يتابع تطور ما يكتبه يومياً كي لا «يخدع نفسه»، كما يقول، حيث يضع جدولاً من الورق المقوى يعلقه أمامه، ويسجل عليه عدد الكلمات التي يخطها.
يُحرره ذلك من الشعور بالذنب الذي يجتاحه لو قصر في أمر الكتابة، فهو يقوم في نهاية اليوم بإحصاء عدد الكلمات التي كتبها فيه، فإذا كان العدد كبيراً، فإنه لن يشعر بتأنيب للذات لو قضى اليوم التالي في صيد السمك.

madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى