عدو ميانمار الداخلي
تأليف: فرانسيس ويد
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
على مدى عقود بدت ميانمار دولة مكونة من مواطنين صالحين مقابل نظام قمعي، حيث حكم العسكر بقبضة حديدية غالبية السكان البوذيين المتمسكين بالمثل العليا من اللاعنف والتسامح. ولكن في السنوات الأخيرة انتشرت رواية أخرى. إذ إنه في يونيو 2012، اندلع العنف بين البوذيين والمسلمين في غرب ميانمار، ما أشار إلى وجود فجوة متزايدة بين الطوائف الدينية التي لم تحظ باهتمام كبير من العالم الخارجي. وسرعان ما انتشرت الهجمات على المسلمين في جميع أنحاء البلاد، ما أسفر عن مقتل المئات، وحصار وتشرّد عشرات الآلاف منهم. المثير أن هذا العنف الذي اندلع وسط حالة انتقال البلاد إلى الديمقراطية، كان مدعوماً من الرهبان والناشطين المؤيدين للديمقراطية، وحتى السياسيين.
يستكشف الكاتب فرانسيس ويد في عمله الجديد هذا، كيف أن التلاعب بالهويات العرقية من قبل نخبة حاكمة تعاني القلق قد أرسى أسس العنف الجماعي، وكيف أنه – في حالة ميانمار – قامت بعض الأصوات الأكثر احتراماً ودعوة للديمقراطية بالتوجّه نحو السكان المسلمين، في الوقت الذي بدأت فيه أغلبية المواطنين تشهد حريات كانت محجوبة عنهم لمدة نصف قرن. ويشير إلى أن المراقبة المكثفة استمرت للسكان في فترة الحكم المدني، وهذا الأمر جلب معه عواقب وخيمة.
هذا الكتاب نتاج عملية بحثية قام بها الكاتب خلال رحلاته إلى ميانمار بين 2012 و2016 لنقل صورة العنف وعواقبه إلى الإعلام. وفي بعض المرات بقي فيها لأسابيع، وفي مرات أخرى قضى شهوراً، كما قام بتغيير أسماء من حاورهم حرصاً منه على سلامتهم.
يقع الكتاب في 256 صفحة من القطع المتوسط صدر ضمن سلسلة «نقاشات آسيوية» عن دار «زيد بوكس» البريطانية 2017. ويتكون بعد المقدمة من أحد عشر فصلاً:
1) الموجة الأولى: القتل والدخان والأطلال. 2) أبناء لأيّ أرض؟ بريطانيا وولادة أمة منقسمة. 3) فن الانتماء: عملية غريبة في يانغون. 4) هم ونحن: صناعة الهويات، التلاعب بالانقسامات. 5) التحكم بالغاضبين: الهندسة الاجتماعية وقرية السجناء. 6) 2012: موسم العنف. 7) يسقط الظلام مع الضوء الأول: تعثّر تجربة ميانمار الديمقراطية. 8) «نزلنا من السماء»: دعاة الكراهية البوذيون. 9) دولة الفصل العنصري: المخيمات، الغيتوهات، وهندسة التحكم الجديدة. 10) يو مونغ سو: منبوذ متنكّر. 11) في الكوخ السينمائي القديم: الخوف، والأمل وأبطال يغيبون عن ذاكرتنا.
العنف في راخين
في عام 2012، اندلع العنف الطائفي في ولاية راخين، مما أدى إلى تشريد أكثر من 125 ألف مسلم – معظمهم من الروهينجا – من عاصمة الولاية سيتوي، وأماكن أخرى في جميع أنحاء الولاية. وفي العام التالي، اندلعت سلسلة من الهجمات العنيفة على المجتمعات الإسلامية في أماكن أخرى في ميانمار، على ما يبدو بصورة فجائية، مما تسبب في تدمير أحياء بأكملها، ومقتل العشرات في ميكيتيلا، لاشيو وسلسلة من المدن شمال يانغون.
خلال حديثه مع بعض الراديكاليين في ميانمار، يقول الكاتب: «بقدر ما صدم العنف الجميع، فإنه فرض أيضاً نظرة أعمق داخل المجتمع، لأن هذا الشكل من العنف، بطريقة أو بأخرى، لم يكن فريداً بالنسبة لميانمار. فقد كانت هناك أصداء من الصراعات الدينية – الإثنية في أماكن أخرى من العالم، حيث المخاوف المتعلقة بسرعة التغلب على مشكلات الهويات وأنظمة المعتقد قد تحوّلت إلى غضب دموي، ما خلف نتائج عميقة. كانت هناك دروس يمكن التعلم منها بالنسبة لمجتمعات متنوعة أخرى تشهد تغيراً سريعاً. لكن ما كان يتكشف في ميانمار ظهر مربكاً على نحو خاص، لأن العنف بدا أنه يمضي بشكل مؤثر ضد توافق البلاد وإيمان الأغلبية».
ويتساءل: «لماذا كانت البوذية إلى هذه الدرجة بحاجة إلى الحماية؟ لماذا، في المشهد المتغيّر لميانمار، ظهر أناس شرسون جداً في حماسهم لدرجة أنهم سيبنون سياجاً من عظامهم، أو أنهم سيسعون إلى القضاء على أي تهديد لدينهم؟»، ويعلق: «إن العنف الذي اندلع في بلدات عبر ميانمار بعد 2012 كان مرعباً وقاسياً، حيث قطعت الرؤوس بالسواطير في وضح النهار على زوايا الشوارع في البلدات المزدحمة، وتم ذبح الطلاب المسلمين الشبان. أردت أن أفهم كيف حدث ذلك التحوّل إلى العنف، وكيف دخل عقول القوميين الراديكاليين؟».
جاءت هذه الحوادث في سياق متناقض بشكل كبير مع حديث التقدم في ميانمار بعد بداية الإصلاحات السياسية والاقتصادية المهمة في عام 2011. لكن يبقى السؤال: لماذا – مع رفع قبضة العسكر عن البلاد، تحولت المجتمعات المحلية إلى حالة من الصراع مع بعضها؟ ما هي الإيديولوجيات والأهداف السياسية والسوابق التاريخية التي جلبت ميانمار إلى نقطة التحول هذه؟ وماذا يعني كل ذلك لأجل التماسك الاجتماعي والتعددية والهوية؟
السياق التاريخي
يعود الكاتب في عمله إلى أرشيف ميانمار التاريخي وتشكل الإسلاموفوبيا في الوقت الراهن، متتبعاً إرث العرق في ميانمار من فترة ما قبل الاستعمار حتى الوقت الحاضر، موضحاً أن النظام الاستعماري البريطاني للتصنيف العرقي رسّخ الانقسامات بين الشعوب التي كانت في السابق أكثر مرونة بالتأكيد؛ وبعد ذلك، اتخذ الرئيس البورمي ني وين ( 1962 إلى 1981) خطوة خطيرة أخرى من خلال إضفاء الطابع الرسمي على قائمة المجموعات العرقية «الأصلية» المعترف بها رسمياً، معززاً بذلك الوضع البوذي – البرماوي الإثني، وإنشاء نظام مواطنة متعدد المستويات. (البرماويون هم المجموعة العرقية المهيمنة في بورما، يشكلون حوالي 68 ٪ أي 30 مليوناً من السكان). ولا يزال هناك تأثير ملموس لسياسة «فرق تسد» حتى يومنا هذا، يتم التعبير عنها في السياسة الرسمية والرأي العام، حيث تعد الهوية البوذية مفتاحاً لجميع المزايا التي تقدمها الدولة، بينما غيرهم تسكنهم هواجس العرق، وكيفية نظر المجتمع المختلف عنهم إليهم.
في أواخر أغسطس الماضي، اتخذت الأعمال القتالية في ولاية راخين الشمالية منعطفاً مظلماً. فقد أسفرت الهجمات التي شنها مسلحون من الروهينجا عن عمليات انتقامية من جانب قوات الأمن، أدت إلى مقتل العشرات، وتشير التقارير إلى ارتكاب فظائع من قبل الجانبين. ويشير الكاتب إلى أن الصراع الأهلي بطبيعة الحال ليس شيئاً جديداً في ميانمار، ولكن فظاعة الخطاب الذي يحيط بهذه الموجة الأخيرة من العنف أمر يثير الرعب. ووصفت وسائل الإعلام الحكومية بسرعة أعضاء منظمة «جيش إنقاذ روهينجا أراكان» ب«الإرهابيين البنغاليين المتطرفين»، في حين رفض مستخدمو وسائل الإعلام الاجتماعية التقارير التي تتحدث عن ارتكاب فظائع من قبل أكبر فرع للقوات المسلحة في ميانمار المعروفة باسم «تتماداو»، ووصفوها بالأكاذيب، وأنها تهدف إلى التعاطف مع «المهاجرين غير الشرعيين» المسلمين، وذلك كجزء من مؤامرة لاستبدال البوذية بالإسلام في راخين وأجزاء أخرى من ميانمار.
بدايات الإسلام في ميانمار
في تحليله لظاهرة العنف، يعود الكاتب إلى تاريخ الإسلام والمسلمين في ميانمار، ويقول: «قبل أكثر من ألف سنة، انتشرت المخيمات على طول الخط الساحلي لولاية راخين، كانت شواطئها كمحطات توقف لبعض المسلمين الأوائل الذين كانوا يصلون إلى الأرض المعروفة اليوم باسم»ميانمار». كانوا يأتون في قوارب، كما تجار آخرون من الهند وبلاد فارس الذين أقاموا خطاً من المستعمرات الصغيرة على طول الخطين الساحليين الجنوبي والغربي. ربما لم يكن في نية المستوطنين البقاء، إلا أن قوانين الطبيعة، وتكنولوجيات السفر عبر البحار في القرن التاسع كانت ضدهم. فضلاً عن أن الرياح الموسمية التي كانت تهب عبر خليج بنغال في شهر مايو(أيار) من كل عام، أبقت العديد من الواصلين عالقين، وهناك تزوجوا، ودعموا عائلاتهم مالياً، بالتالي يعد هؤلاء الدليل الأول للإسلام في ميانمار».
ويضيف أنه في ذلك الوقت، كانت تتطلع مملكة راخين الساحلية على العموم، التي أصبحت مستقلة عن ميانمار، وكان يغلب عليها البوذيون، إلى الممالك المسلمة في الغرب لأجل التجارة. إلا أنها منعت السلسلة الجبلية الطويلة «راخين يوماً» الممتدة من الشمال إلى الجنوب على طول الجانب الشرقي من تطور الروابط الوثيقة مع ممالك بامار، لكن بدأ ذلك بالتغير مع الهجرة الجماعية لشعوب وادي أيايوادي إلى المنطقة الساحلية حوالي القرن الحادي عشر. هذا المجتمع الجديد اختلط مع السكان البوذيين الذين كانوا قد استقروا من قبل، وأصبحوا يشكلون الجزء الأكبر من إثنية الراخين.
خلال أغلب الألفية السابقة، عاشوا بين التجار المسلمين المنحدرين من بلاد الهند وفارس في تناغم نسبي، والحكّام شجعوا على التودد بين الرجال والنساء من كل مجتمع ديني، لكن وصول المستوطنين المسلمين الأوائل تزامن مع فترة من التوسع الإسلامي ناحية الشرق، إلى ممالك آسيا التي يهيمن عليها حتى الآن الهندوس والبوذيون. كما تلاحظ سجلات المسافرين الذين عبروا خلال أواخر القرن التاسع من جنوبي الصين نحو الحدود الشمالية لميانمار أن للمسلمين وجوداً على طول الحدود الميانمارية – الصينية.
ويشير إلى أنه في الفترة نفسها تقريباً التي أقيمت فيها المحطات التجارية على الساحل الغربي لميانمار، انتشر تدريجياً هؤلاء الناس في الداخل قائلاً: «أطلق الملوك الأوائل لميانمار الحملات الروتينية لاعتقال العبيد في القرى المسلمة الموجودة في محيطهم، معيدة توطين الأسرى في الداخل، وعلى مدى قرون، توسّعت شبكة المجتمعات المسلمة في الداخل. ذلك كله كان قبل أن تصبح البوذية ديناً للدولة بحكم الأمر الواقع، وقبل أن يصبح الدين محور الانقسام العنيف كما صار عليه في السنوات الأخيرة»، مضيفاً: «ميانمار شهدت كافة قصص القهر، لكن هناك القليل من حكايات العنف التي وقعت على أساس الدين عبر تاريخها». ويرى أنه «في أواخر القرن التاسع عشر، بدأ تغيير ديمغرافي كبير، يحدث ببطء، يؤثر في الديناميكية الدينية في البلاد، حيث وقعت ميانمار بكاملها تحت حكم البريطانيين في 1885 الذين لعبوا دوراً في ترسيخ الانقسام لخدمة أهدافهم الاستعمارية».
في ضوء الفظائع الكبرى التي شهدتها ميانمار، من الصعب أن نشعر بالتفاؤل الكبير بأن ميانمار ستتجاوز قريباً ما تعانيه حالياً، وتتحول إلى مجتمع يحترم حقوق كل شخص يعيش داخل حدودها. ومع ذلك، يختتم الكاتب عمله بأمثلة مباشرة عن الأماكن التي يعيش ويعمل فيها المسلمون والبوذيون معاً، ويشاهدون كرة القدم، ويستمتعون بوجبات الطعام كمجتمع محلي، حتى في بعض الأجزاء الأكثر قسوة في ولاية راخين، في إشارة أمل منه بغد أفضل يقوم على حقوق المواطنة دون تمييز عرقي أو طائفي.
نبذة عن الكاتب:
ولد فرانسيس ويد في ماساتشوستس، وانتقل إلى كينغستون ليترعرع فيها، ثم انتقل للدراسة والعمل في نيويورك ونيوجيرسي وفورت لودرديل.
أكمل فرانسيس درجة البكالوريوس والماجستير في جامعة كورنيل في مجالات بحوث العمليات والهندسة الصناعية.
عضو في كلية التدريس في جامعة فينيكس. كمؤسس لمختبرات «2Time»، يقوم باستخدام الاكتشافات في مجالات متنوعة لصياغة الحلول المتطورة. يكتب في العديد من المطبوعات كصحفي متعاون منها: «الجارديان»، «آسيا تايمز أون لاين»، «فورين بوليسي»، و«لوس أنجليس بوكس ريفيو». كما عمل سابقاً محرراً ومراسلاً ل«صوت بورما الديمقراطي»، وهي مؤسسة إخبارية بورمية في المنفى تتخذ من تايلاند مقراً لها.