عصر المسؤولية
تأليف:ياسشا مونك
ترجمة وعرض:نضال إبراهيم
لعب التركيز الجديد على «المسؤولية الشخصية» دوراً كبيراً في تغيير الفكر السياسي والسياسة العامة في أمريكا وأوروبا. فمنذ السبعينات، كانت المسؤولية حينها تعني الواجب الأخلاقي في مساعدة الآخرين ودعمهم – تقترح التزاماً بالاكتفاء الذاتي. وقد وجّه هذا المفهوم المحدود للمسؤولية الإصلاحات الأخيرة في دولة الرفاه، ما جعل الاستحقاقات الأساسية مشروطة بالسلوك الحسن.
ومن خلال تسليط الضوء على التاريخ الفكري والنظرية السياسية والفلسفة الأخلاقية، يبين الكاتب والباحث الأكاديمي ياسشا مونك أسباب عرقلة المسؤولية، وكيفية التغلب عليها.
بدأت المسؤولية الشخصية كتعبير محافظ، ولكن مع مرور الوقت، قام القادة من الأطياف السياسية المختلفة بالاشتراك في إطاره الأساسي العام. واليوم، نادراً ما يشكك الفلاسفة المناصرون لمذهب «المساواتية» في الأهمية المعيارية للمسؤولية. ومع التأكيد على التأثير السائد للحظ على حياتنا، فإنهم يجعلون الفقراء كضحايا لا يمكنهم أن يكونوا مسؤولين عن أفعالهم.
ويوضح الكاتب ياسشا مونك أن التركيز اليوم على المسؤولية الفردية أمر خاطئ، ويأتي بنتائج عكسية، وهو يصرفنا عن القوى الاقتصادية الكبرى التي تحدد النتائج الكلية، وتتجاهل ما ندين به لمواطنينا بغض النظر عن خياراتهم، كما أنها تعمينا عن القيم الرئيسة الأخرى، مثل الرغبة بالعيش في مجتمع متساوٍ. ويحاول مونك أن يبني تصوراً إيجابياً للمسؤولية. وبدلاً من معاقبة الأفراد على خياراتهم السابقة، يشير إلى أن السياسة العامة ينبغي أن تهدف إلى تمكينهم من تحمل مسؤولية أنفسهم، وهؤلاء الذين من حولهم.
مهاجمة «الرفاه»
يشير الكاتب إلى أنه في كثير من الأحيان بعد فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الكثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسيين اعتقدوا أن التركيز على المسؤولية الشخصية للفرد كانت، في أفضل الأحوال، شكلاً من الإلهاء والارتباك. وفي أذهانهم، ما كان يهم حقاً هو أسئلة معيارية وتركيبية أكبر مثل: ما شكل توزيع الموارد الاقتصادية الذي ينبغي أن نستهدفه؟ ما التأثير الذي تتركه طبقة الأم وعرقها وموقعها الجغرافي على آفاق أطفالها؟ وما الواجبات المفروضة على الدولة حيال المعدمين، بغض النظر عن الأسباب التي دفعت إلى محنتهم؟ وإلى الحد الذي يتكلمون فيه عن المسؤولية بشكل عام، عادة ما لا يقصدون تلك المسؤولية التي يكون فيها كل شخص مكتفياً بذاته، بل بالأحرى تلك المسؤولية التي علينا عبرها مساعدة مواطنينا.
ويضيف: «إن الانتقال من التأكيد على الاعتبارات الهيكلية على المستوى الاجتماعي إلى التأكيد على المسؤوليات الفردية حدث بشكل بطيء، كنتيجة التحولات الدقيقة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، ثم إلى جانب قوة خفية، انفجرت الروايات المتعلقة بالمسؤولية في المشهد السياسي كجزء رئيسي من ثورة المحافظين في أوائل ثمانينات القرن الماضي. وكان التركيز المتجدد على المسؤولية الشخصية، على سبيل المثال، الموضوع الضمني لواحدة من عبارات الرئيس الأمريكي رونالد ريجان (1981-1989) الأكثر شهرة:«يجب أن نرفض فكرة أنه في كل مرة يخترق أحدهم القانون، يكون المجتمع مذنباً بدلاً من مخترق القانون. لقد حان الوقت لاستعادة أوامر السلطة التشريعية التي توضح أن كل فرد مسؤول عن أفعاله». في الحقيقة، بالنسبة للكثيرين من التابعين المتحمسين، فإن«ثورة ريجان»، تكونت بالتزامن بشكل دقيق مع«التجارة الحرة والمسؤولية الشخصية».
وبإدراكهم كيف أن تأكيدهم بشكل عميق على المسؤولية يتردد صداه عند الجمهور العام الأوسع، بدأ الجمهوريون باستخدام عبارتهم الطنانة لمهاجمة دولة الرفاه. ثم حدث شيء غير متوقع:
الديمقراطيون ساروا على خطاهم. وعندما تآمر السياسيون من كلا الجانبين ل«إنهاء الرفاه كما نعرفه»، في سنوات التسعينات، اسم البند ذاته الذي سبّب تجاوز النظام الأمريكي الأكثر أصولية فيما يتعلق بتوفير الرعاية الاجتماعية في نصف قرن، استحضر عبارتهم المفضلة الجديدة التي كان يطلق عليها:«بند التوفيق بين فرص العمل والمسؤولية الشخصية». أما في أوروبا، فإن سياسيين مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير والمستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر اتبعوا حذو السياسيين الأمريكيين، مبررين إصلاحات نظام الرفاه لديهم بلغة مشابهة بشكل لافت للنظر.
مراوغات السياسيين
يشير الكاتب إلى أن الحديث اليوم عن«المسؤولية الشخصية» أمر مراوغ على كلا جانبي الأطلسي، وعند كل أطراف الأطياف السياسية. فالسياسيون من وسط اليمين يريدون أن تلعب الدولة دوراً أصغر في تقديم الرفاه لمواطنيها، ويبررون إصلاحاتهم بالحديث عن قيمة المسؤولية. وفي محاولة للسيطرة على أرضية المركز، فإن العديد من السياسيين اليساريين قاموا بمحاكاة لغتهم وأهدافهم. في الحقيقة، الحديث عن المسؤولية أصبح واسع الانتشار للغاية، حتى أن أولئك السياسيين من يسار الوسط الذين لا يريدون من الدولة أن تلعب دوراً أكبر في الاقتصاد، لم يعودوا يتحدثون عن بناء شبكة أمان اجتماعي للجميع».
ويضيف: كافح المؤرخون وعلماء الاجتماع لتحديد لحظتنا الاقتصادية والسياسية، ووفقاً لعدد من المفسرين، نحن نعيش في «مجتمع خطر» في «عصر العولمة» نعاني من «الرأسمالية التوربينية»، و«رأسمالية الكازينو»، و«أمْوَلة الرأسمال المنتشرة»، أو دخلنا «قفصاً ذهبياً جديداً»، مشيراً إلى أن «كل وصف من هذه الأوصاف يجذب انتباهنا إلى مراحل مهمة من زماننا، ويقول:«لكن من وجهة نظري، كل وصف يهمل الآخر، فقط كملمح مهم من التغيرات السياسية والاجتماعية الحديثة. وعلى مدى السنوات الثلاثين الأخيرة، أصبحت فكرة المسؤولية الشخصية مركزية لمفرداتنا الأخلاقية، مروراً بجدالاتنا الفلسفية حول العدالة التوزيعية إلى خطابنا السياسي وكذلك سياساتنا العامة الفعلية. وليس من المبالغ إذا قنا أننا نعيش الآن في «عصر المسؤولية»».
السياسة المعاصرة
مثل الشعارات السياسية الشائعة، من الحرية إلى الديمقراطية، أصبح معنى المسؤولية من دون شكل، إذ إن استعمالاتها تعددت. فتعدد المعاني يخفي محنة عميقة في قلب الكثير من الحديث المعاصر حول المسؤولية الشخصية. في الخطاب السياسي، يفترض معظم الناس أن مفهوم المسؤولية بشكل ضمني مبسّط، لدرجة أنه من غير الواقعي الاعتقاد أن هناك سبباً حقيقياً لمعاملة المسؤول (بشكل افتراضي) أفضل من اللامسؤول (بشكل افتراضي). بينما في الفلسفة، يتم الدفاع بشكل صريح عن مفهوم المسؤولية في صفحات لا تعد ولا تحصى وهو أمر في غاية التعقيد، لدرجة أنه ربما يكون هناك ادعاء أكبر بكونك مهم على الصعيد الأخلاقي، ويمكن ألا ينطبق عليك ذلك في الممارسة السياسية.
ويعلق: في سنوات ما بعد الحرب، كان هناك إجماع على أن العديد من الواجبات التي تدين بها الدولة لمواطنيها كانت مستقلة إلى حد كبير عن الخيارات التي اتخذها المواطنون: فعلى سبيل المثال، إذا كان الناس يعانون من الجوع، كانت مهمة الدولة إطعامهم – حتى لو أن جوعهم كان نتيجة سوء إدارة الشؤون المالية. لم يعد الأمر كذلك. واليوم، تميل التزامات الرعاية الاجتماعية إلى أن تكون مشروطة بالسلوك الحسن أو «المسؤول». ولكن عندما يشعر عدد كبير من السكان بأنهم على الرغم من عملهم الشاق والتزامهم بأن يكونوا «مواطنين مسؤولين»، فإنهم لم يعودوا يحققون تقدماً اقتصادياً، ويرون أن مستوى معيشتهم يتدهور، وهذا يعني أننا بحاجة إلى إيجاد طرق جديدة للتفكير والتحدث عن دور دولة الرفاه.
ويضيف: «إن أي فهم جديد لدولة الرفاه يجب أن يمكِّن المواطنين من مواجهة الاضطرابات الاجتماعية العميقة للأتمتة والعولمة، وأن يهدئوا بعض قلقهم الاقتصادي القائم على أسس سليمة.
فإذا كان صناع القرار سيعيدون إرساء الأسس لأجل الرخاء الشامل الذي كان استقرار الديمقراطية يعتمد عليه دائماً، يجب عليهم التغلب على التركيز الكبير بشأن المسؤولية الشخصية التي ضيّقت أِشكال الأفكار السياسية التي يأخذونها بجدية، وما هي الأشكال الاقتصادية التي يمكنهم تصورها».
استمرار الجدل
يقف هذا الكتاب على تداخل منهجي غير اعتيادي، ويحتوي على عناصر من التاريخ الفكري، والنظرية الاجتماعية، والسياسة المقارنة، والفلسفة السياسية المعيارية. ولا نجد أن في نيته الإسهام في الفلسفة الأخلاقية أو في النظرية المثالية، بل بدلاً من ذلك، يحاول التدخل في جدال موجّه ومحدّد بشكل تاريخي. ويتكون الكتاب بعد مقدمة بعنوان: «صعود المسؤولية الشخصية» من خمسة أقسام هي: 1(أصول عصر المسؤولية). 2 (دولة الرفاه في عصر المسؤولية). 3( إنكار المسؤولية). 4( أسباب تثمين المسؤولية). 5( مفهوم إيجابي عن المسؤولية). وينتهي العمل بخاتمة بعنوان «ما وراء عصر المسؤولية».
ويقوم الكاتب في الفصل الأول بالتوجّه إلى الأصول الفكرية لعصر المسؤولية، من خلال تحديد التاريخ الفكري الأخير للغة المسؤولية الشخصية، إذ يأمل في إظهار الكثير بوضوح عن الطرق التي تجعل من اللحظة السياسية فريدة، ويوضح في تفصيل أكبر كيف أن إطار المسؤولية يظهر في الفكر السياسي المعاصر.
ثم يتناول في الفصل الثاني تطور دول الرفاه في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. ومن خلال معاينة جهود الإصلاح الأخيرة، يظهر الكاتب أن لغة المسؤولية بات لها تأثير كبير على السياسة العامة.
ويعاين في الفصل الثالث بشكل مفصل أكثر ردود الأفعال شيوعاً إزاء عصر المسؤولية، كما يظهر في الفصل الرابع كيف أن فكرة المسؤولية في غاية الأهمية، مستشهداً بالعديد من الآراء والكتّاب، ومقدماً رواية عن احترام الذات واحترام الآخرين والأسباب الاشتراكية التي تفرض علينا أن نعطي المسؤولية دوراً حقيقياً في تصوراتنا الفلسفية والسياسية، وهذا الخط من التفكير يقوده في الفصل الخامس إلى اقتراح رواية مؤسساتية عن المسؤولية، والتي تستخدم فكرة المسؤولية لتحديد تقسيم اشتراكي عادل للعمل بدلاً من تتبع بعض الأفكار الأسطورية ما قبل المؤسساتية عن المسؤولية «الحقيقية»، موضحاً أن المسؤولية يمكن العمل على تمكينها بدلاً من جعلها تأديبية.
ما يطمح إليه هذا الكتاب هو فهم عصر المسؤولية، لتوجيه النقد له، والبدء ببناء الأسس الفكرية التي ستساعدنا على تركها خلفنا، وهو يجمع بين اللغة السياسية والفلسفة السياسية.
نبذة عن الكاتب:
ياسشا مونك محاضر في النظرية السياسية في إدارة الحكومة بجامعة هارفارد، وهو زميل ما بعد الدكتوراه في أكاديمية ترانساتلانتيك التابعة لصندوق مارشال الألماني، وزميل غير مقيم في برنامج الإصلاح السياسي في «نيو أمريكا». ولد في ألمانيا لوالدين بولنديين، وحصل على شهادة البكالوريوس في التاريخ من كلية ترينيتي (الثالوث) في مدينة كامبريدج البريطانية، ثم نال شهادة الدكتوراه في الحكومة من جامعة هارفارد. يكتب باستمرار في الصحف والمجلات السياسية في الولايات المتحدة وبريطانيا، كما أنه يتحدث في المؤتمرات والندوات السياسية ويعلق على الأحداث السياسية الدولية على شاشات التلفزة في مجال تخصصه. تتركز اهتماماته البحثية بشكل عام حول النظرية السياسية والسياسة المقارنة. ويعمل حالياً على موضوع أزمة الديمقراطية الليبرالية، وسيتناوله في كتاب جديد بعنوان «الشعب في وجه الديمقراطية: كيف يقوّض التصادم بين الحقوق الفردية والإرادة الشعبية الديمقراطية الليبرالية» باللغة الإنجليزية والألمانية، والكورية.