مقالات عامة

عندما لم تسقط السماء على الأرض

د. محمد السعيد إدريس

لم تسقط السماء على الأرض.. هذا ما يردده كبار المسؤولين الأمريكيين، وفي مقدمتهم السفيرة نيكي هايلي، رئيسة الوفد الأمريكي بالأمم المتحدة في تبرير قرار الرئيس دونالد ترامب التعجيل بنقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى القدس، ليتزامن هذا الحدث مع ذكرى النكبة. كانت القدس هي آخر الخطوط الحمر العربية التي أخذت تتساقط الواحدة تلو الأخرى وتتساقط معها الكثير من الثوابت التي كانت تحكم الصراع مع العدو «الإسرائيلي» الذي لم يعد صراعاً، بل بات محض «وجهة نظر».
قبل أن يعلن الرئيس الأمريكي قراره الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، ويقرر نقل سفارة بلاده إليها، كان مثل هذا القرار من المستحيلات العربية والإسلامية، وهذا ما أدى إلى تكريس أسطورة «إلا القدس!!»، ما جعل العالم يتهيب حدوث مثل هذا الإجراء، ويتصوّر أنه لو حدث سوف تسقط السماء على الأرض، وجاء ترامب ليسقط المحرمات، ليجد قبولاً ضمنياً، أراد أصحابه تجميله وتمرير تجرع السم رشفة تلو الأخرى، بأن هذا القرار لن ينفذ قبل نهاية عام 2018، وربما يؤجل لانتهاء مفاوضات مشروع ترامب للتسوية «صفقة القرن» التي ربما تفضي إلى تقسيم القدس بين «الإسرائيليين» والفلسطينيين.
راقب الأمريكيون ردود الفعل العربية والإسلامية، وعندما تأكدوا أن «السماء لم تقع على الأرض» بعد قرار ترامب، قرّروا إجبار العرب على تجرّع السم دفعة واحدة، بإعلان القرار الجديد، أن يتم التعجيل بنقل السفارة تزامناً مع احتفالات دويلة الاحتلال بذكرى تأسيسها السبعين يوم 14 مايو المقبل، بغية وضع المزيد من الملح على جروح العرب النازفة.
صفعة أمريكية أخرى للعرب، يتكرر المشهد. فقد اهتم العرب وانشغلوا بتوصيف القرار وتحليله، وبعضهم اعتبره عقاباً أمريكياً على تجاوزات الرئيس الفلسطيني محمود عباس للإرادة الأمريكية، ورفضه القبول ب «صفقة القرن»، وذهابه ليطلب من مجلس الأمن عقد مؤتمر دولي يتولّى مسؤولية البحث عن مسار بديل للسلام في الشرق الأوسط بدلاً من «الوسيط الأمريكي».
اللافت أن القرار الجديد للإدارة الأمريكية بنقل السفارة إلى القدس مع احتفالات ذكرى تأسيس «إسرائيل»، جاء متزامناً مع استعدادات اللجنة العربية المعنية بالقدس الاجتماع مع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي للبحث في إمكانية إحياء عملية السلام، ما يعني أن واشنطن تريد التأكيد أنه لا بديل عن الدور والحل الأمريكيين.
على الجانب الآخر كانت «إسرائيل» وقادتها يرتشفون كؤوس النشوة بقرار الرئيس الأمريكي، وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي خاطب الرئيس ترامب امتناناً وتقديراً، بقوله: «أنت صديق عظيم لدولة «إسرائيل»، كما وجّه الدعوة للرئيس ترامب لحضور حفل تدشين السفارة في احتفالات «إسرائيل» بالذكرى السبعين لقيامها.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكن «الإسرائيليين» كانوا حريصين على توصيل رسائل أخرى موازية للعرب، لها علاقة وثيقة بتلك «الأبعاد بالغة المغزى والتاريخية» لقرار التعجيل بنقل السفارة الأمريكية للقدس، عبّروا عن ذلك على لسان شلومو شامير السفير «الإسرائيلي» السابق في مقال نشرته صحيفة «معاريف» كرّسه للسخرية من المسعى الفلسطيني للجوء إلى مجلس الأمن كبديل عن الوسيط الأمريكي بالقول إن مجلس الأمن «هو المكان الأخير في العالم الذي يمكنه، والقادر على الدفع للأمام لتطلعات الشعب الفلسطيني».
واعتبر شامير أن «الخطأ الاستراتيجي لأبي مازن هو الجهد المعلن والاستعراض الذي يقوم به لاعتبار مجلس الأمن جهة مركزية، مؤثرة وقائدة في المحاولة لإيجاد حل سياسي للنزاع»، مضيفاً أن الولايات المتحدة «هي وحدها القادرة على التعاطي مع النظام»، وموجهاً النصح للرئيس الفلسطيني بأنه «بدلاً من إضاعة الوقت والجهد في عمره المتقدم، ولبس ثوب الضحية في استعراض للمسكنة في خطابه أمام مجلس الأمن، عليه أن يسترضي الرئيس الأمريكي ويحظى بلقاء معه».
أما الرسالة الأخرى، فهي المعنى الذي أرادوه بقتل ياسين السراديح بعد ساعات من اعتقاله من منزله في مدينة أريحا قتلاً بشعاً، يحمل المغزى الذي فهمه نتنياهو من قرار ترامب. فقد كشفت نتائج التشريح أن الشهيد تعرّض للضرب المبرح الذي أدى إلى إصابته بكسور في الرقبة والرأس والصدر والأكتاف، وبعدها تعرّض لإطلاق النار عليه من «المسافة صفر» في «منطقة أسفل البطن. إعدام ميداني وعن سبق إصرار ودون محاكمة».. إعدام ليس لشخص الشهيد ياسين السراديح وحده، ولكنه إعدام عن عمد وسبق إصرار لكل مسعى لحل الصراع خارج نطاق المشروع «الإسرائيلي»، المدعوم أمريكياً، وتحدٍ صارخ لوهم العرب المتكرر، بأن السماء يمكن أن تقع على الأرض.

msiidries@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى