عندما يتلاشى القانون الدولي
د. عمر عبدالعزيز
بغض النظر عن كامل الملابسات السياسية وكذا التقديرات النسبية لأطراف الصراع السوري الذين ارتضوا لأنفسهم أن يتراجعوا إلى أدنى السلالم الأخلاقية والسياسية، من خلال قبولهم الناجز بممارسة دور وكلاء الأعمال للمخططات الإقليمية والدولية التي لا يمكن أن توصف إلا بكونها مخططات إجرامية بدليل التبني العملي لسياسة تدوير الأزمة السورية بمزيد من تأزيمها، وغض الطرف عن الجرائم اليومية التي ترتكب بحق المدنيين منذ سنوات خلت، وها هي الآن تعيد إنتاج مفاعيلها الأكثر بؤساً من خلال الهجمة الضارية على الغوطة الشرقية، تلك المنطقة التي طالما تميزت بجمالها وبهاء طبيعتها وكونها الحاضن الأكبر لدمشق المدينة.
ففي الغوطة ينساب نهر بردى بنعومة صفائه وعظيم تاريخه، وفيها البساتين التي طالما ألهمت الشعراء والأدباء والفنانين، وفِي تلالها وروابيها يتقدم تاريخ التعايش بوصفه الإكسير الشافي لسوريا الكبيرة بتراثها وأنساق ثقافاتها، وقيمتها المركزية في المعادلتين العربية والإقليمية.
اليوم تعود الشظايا القاتلة والقصف المنهجي للمنازل والمستشفيات ودور العبادة، ويتساقط مئات الضحايا ليتحولوا إلى مجرد تلال رقمية تحصى وتدفن كما تدفن النفايات.
خلال السنوات السبع الماضية غادر نصف سكان سوريا بلادهم، ليلتحقوا بالمنافي الجبرية في مختلف أرجاء العالم، وليشار إليهم بالبنان من قبل ضيقي الأفق، ممن يستوهِمون أنهم بمنأى عن ذات المصير المخطط له في كامل الجغرافيا العربية الماثلة، وبتمديد مؤكد لن يوفر منطقة في الشرق الأوسط، كما ورد في المخطط الافتراضي للمحافظين الجدد قبل عقدين من الزمان.
يومها افترض الكثيرون أن ذلك المخطط ليس أكثر من وهم غير قابل للتحقيق، لكننا نشاهد اليوم معنى ( الفوضى الخلاقة) التي استزرعت في العراق وأفغانستان واليمن وسوريا وليبيا.
خلال السنوات السبع للموت العدمي قتل مئات آلاف السوريين ضمن إحصاء يتزايد بمتوالية عددية يومية صاعدة، وأصبح الملايين معاقين جسدياً وروحياً، ولم يبقَ في وطن البهاء والتاريخ إلا البقية الباقية من المسنين الرافضين لمغادرة المرابع التي ولدوا فيها وعاشوا فيها متناغمين مع أفراحها وأتراحها.. أما من بقي من الشباب فمصيرهم المحرقة المتجولة في أرجاء البلاد، فلا خيار أمامهم سوى الموت هنا أو هناك، ولا منجاة لعقولهم وأفئدتهم من الاستقطابات الخسيسة،تارة باسم الميتافيزيقا السوداء، وطوراً بعبادة الأصنام المتجهمة الرابضة كالوحوش عند عتبات السلطة الوهمية.
ما جرى ويجري في غوطة دمشق إدانة للنظام الدولي الذي وصل إلى مستويات قياسية في التخلي عن واجباته الأخلاقية والإنسانية، فها هي الأمم المتحدة تكشف عن عجز متهافت، وها هو مجلس الأمن الدولي يدور على مائدة روليت للقمار الكوني الكفيل بتدمير العالم، حتى وإن اعتقد الكبار أنهم بمنأى عن ذلك التدمير.
لم يعد للنظام الدولي الموروث من الحرب العالمية الثانية أي قيمة تذكر، ولم يعد لجهاز الأمانة العامة للأمم المتحدة من دور يتجاوز مصالحة زعماء وقادة الحرب المدججين بنياشين الدول وأعلامها الوطنية، ولم يبق عند الخمسة الكبار في جهاز مجلس الأمن الدولي من طاقة جبرية قاهرة للمتجاوزين لحقوق البشر، والمنصوص عليها في البند السابع لميثاق الأمم المتحدة، ومن السخريات أن هذا البند أوراقه القهرية وقراراته العنترية أصبحت مكدسة في ثلاجة البورصة الدولية للتسويات الميكيافيلية بين الكبار.
قبل حين استباحت السلطة الطائفية المتعصبة في بورما مواطنيها المسلمين من الروهينجا، ولم يتدخل المجتمع الدولي في معادلة الإبادة والاستباحة، وهذا ما يتكرر في سوريا وغيرها من بلدان النكبات، لأن سوريا وبورما ليستا قابعتين في قلب أوروبا حتى يتم الشروع في تسوية الأوضاع كما حدث في يوغوسلافيا السابقة، وهذا يكشف بجلاء معنى الكيل بمكيالين والنظر بمنظارين.
وهكذا يضمر القانون الدولي، بل يتلاشى، ليفسح الدرب أمام مافيات العالم المعصرنة بمانشيتات الدول، ومباركة الكبار.
omaraziz105@gmail.com