عودة المسألة الإيرلندية
كريس باتِن*
قبل ما يقرب من العشرين عاماً، وبعد أشهر من المفاوضات الدقيقة المضنية، وقّع قادة المعسكرين السياسيين الرئيسيين في إيرلندا الشمالية القوميون والجمهوريون الكاثوليك من جانب؛ والنقابيون البروتستانت على الجانب الآخر على اتفاق «جمعة الآلام» الذي أنهى ثلاثين عاماً من العنف وإراقة الدماء. والآن، بات الاتفاق والعلاقة المتبادلة المحترمة والمتناغمة التي ساعد على تمكينها تحت التهديد.
أُبرِم اتفاق جمعة الآلام بوساطة من رئيس وزراء المملكة المتحدة توني بلير، ورئيس وزراء جمهورية إيرلندا بيرتي اهيرن وبمساعدة السيناتور الأمريكي جورج ميتشيل. (كما قام جون ميجور، سلف توني بلير، بقدر كبير من الأعمال التمهيدية). كان الاتفاق مستنداً إلى اقتراح مفاده أنه ما دام الجميع متفقين على أن أي تغيير للوضع الدستوري لإيرلندا الشمالية من غير الممكن أن يتأتى إلا كنتيجة للاختيار الديمقراطي الحر، فبوسع الناس أن يؤكدوا على ولائهم لهويتهم المفضلة: البريطانية، أو الإيرلندية، أو حتى كليهما.
ولدعم السلام، أنشأ الاتفاق حكومة تتقاسم السلطة في إيرلندا الشمالية، وتتألف من ممثلين لجانبي النزاع. كما أسس اللجنة المستقلة المعنية بمراقبة الأمن في إيرلندا لشمالية، والتي توليت رئاستها شخصياً، لإصلاح جهاز الشرطة. وساعدت الجهود التي بذلناها على الحد من الهجمات على قوات الشرطة من خلال جعلها مقبولة لجميع الفئات، كما أدت إلى زيادة كبيرة في توظيف الكاثوليك، بين أمور أخرى.
وعلى مدار العقدين الماضيين، استمتعت كل من المملكة المتحدة وإيرلندا بثمار علاقة محترمة وسلمية متبادلة. ومن المؤكد أن البريطانيين يرون الكثير مما يثير إعجابهم في إيرلندا اليوم: نموها الاقتصادي، ونهضتها الثقافية في الأدب والموسيقى، وجاذبيتها في نظر المهاجرين من مختلف أنحاء العالَم، الذين يشكلون الآن نحو 17% من سكان البلاد. وفي نضوج غير عادي، تخلت إيرلندا عن الكهنوتية الضيقة، وأصبحت دولة حديثة وسخية.
ولكن الآن نشأت تحديات خطيرة. ففي إيرلندا الشمالية، انهارت حكومة تقاسم السلطة، ولم تعد حكومة المملكة المتحدة في موقف قوي يسمح لها بالمساعدة على استعادة التعاون البنّاء. ففي محاولة لتأمين أغلبية عاملة في مجلس العموم بعد الانتخابات المبكرة في العام المنصرم، عقد المحافظون بقيادة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، اتفاقاً مع الحزب الاتحادي الديمقراطي في إيرلندا، الذي تمتد جذوره إلى التقاليد النقايية المتطرفة. ونتيجة لهذا، تبدو حكومة المملكة المتحدة عاجزة عن العمل كوسيط عادل.
وتعمل مفاوضات الخروج البريطاني الجارية الآن على زيادة الأمور تعقيداً، حيث يبدو أن لا أحد يعرف كيف يتعامل مع العواقب التي قد تؤثر في إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، التي ستقسمها حدود المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي. وفي حين يقول العديد من الساسة إنهم يريدون حدوداً بلا احتكاكات، ناقشت تيريزا ماي، وبعض زملائها، الانسحاب من كل من السوق الموحدة والاتحاد الجمركي، وبالتالي وضع المملكة المتحدة خارج المنطقة المعفاة من الرسم الجمركية.
ويجعلنا هذا في مواجهة احتمالين: فإما النظام التجاري المتحرر من الاحتكاكات الذي يعمل في مختلف أنحاء الجزر البريطانية، وإما الحدود الصارمة عبر إيرلندا. والواقع أن دول الاتحاد الأوروبي الأخرى لن تسمح لإنجلترا واسكتلندا وويلز فقط، بالانسحاب من السوق الموحدة والاتحاد الجمركي، في حين تترك إيرلندا الشمالية. وهذا من شأنه أن يجعل من السهل للغاية تجنب الضوابط التنظيمية، مثل قواعد المنشأ، حيث تصدر دولة من خارج الاتحاد الأوروبي السلع إلى إيرلندا للشحن إلى المملكة المتحدة، أو العكس. وتنشأ مشاكل مماثلة عندما يتعلق الأمر بحرية تنقل البشر داخل الاتحاد الأوروبي وهي القاعدة التي لا ترغب المملكة المتحدة في الخضوع لها.
لا ينبغي لأي من هذه التحديات أن تكون مفاجئة. فقد ظلت التحذيرات تتوالى قبل فترة طويلة؛ فتجاهلتها الحكومة البريطانية ببساطة. وتظل الحلول المحتملة لغزاً كبيراً، لكن السلطات سوف تضطر إلى مواجهة هذه المسألة عاجلاً أو آجلاً.
من المؤكد أننا لن نجد حلاً تكنولوجياً سهلاً. فأي نظام من الضوابط والتوازنات سوف ينطوي حتماً على شكل ما من أشكال السيطرة المادية. ومن المحتم أن يصبح موظفو الجمارك المكلفون بتنفيذ هذه الضوابط والتوازنات رمزاً للانقسام، بل وربما حتى استفزاز العنف من قِبَل المتطرفين الجمهوريين، كما حدث في الماضي. ولن يتطلب الأمر سوى هجوم واحد يدفع الحكومة إلى تعزيز الأمن، وتعميق الانقسامات وتحريض المزيد من العنف.
إن العودة إلى الحدود الصارمة في إيرلندا ستكون مدمرة، لأنها قد تقوض اتفاق «جمعة الآلام». ولا يملك المرء إلا أن يأمل أن يتمكن القادة الإيرلنديون من إقناع الساسة في المملكة المتحدة بهذه الحقيقة، وفتح الطريق أمام حل لا يهدد ما حققته إيرلندا، من سلام وازدهار بشق الأنفس.
* آخر حاكم بريطاني لهونج كونج ومفوض الاتحاد الأوروبي الأسبق للشؤون الخارجية، ورئيس جامعة أكسفورد حالياً. والمقال ينشر بترتيب مع«بروجيكت سنديكيت»