فجر أوراسيا
تأليف: برونو ماسايش
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
يدرك الأوروبيون اليوم أن مشروعهم السياسي يرتبط ارتباطاً وثيقاً ببقية القارات، إذ إنهم سيكونون أقوى بكثير بهذه الطريقة. هذا ما يطرحه وزير الدولة البرتغالي السابق للشؤون الأوروبية برونو ماسايش في كتابه هذا، إذ يتناول التاريخ والدبلوماسية والتقارير الحيوية خلال رحلته التي امتدت ستة أشهر من باكو إلى سمرقند، ومن فلاديفوستوك إلى بكين، حيث توقف عند الأراضي الحدودية المتغيرة بين أوروبا وآسيا والشعوب التي تقطنها. يرى المؤلف أن الحقبة المقبلة من التاريخ ستقودها أوراسيا. فكيف لذلك أن يتحقق؟
كانت الصين وروسيا أسرع في إدراك الأهمية الاستراتيجية المتزايدة لأوراسيا. ويتضح ذلك من مشاريع مثل مشروع البنية التحتية الطموح للصين بإعادة فتح طريق الحرير التاريخي، والنجاح العالمي لمدن/دول مثل هونج كونج وسنغافورة، والدور الدولي المتزايد للعائلة التركية. ومع هذه التطورات، يبدو أن الولايات تعيد النظر في مكانها في العالم. يرى الكاتب أنه يمكن اعتبار فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وقرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي من ضمن الردود على هذه التحولات الخطيرة في النظام العالمي المضطرب.
يقول ماسايش: «نعيش في واحدة من تلك اللحظات النادرة في التاريخ، إذ يشهد المحور السياسي والاقتصادي في العالم التحوّل. فقبل أربعة أو خمسة قرون تحول العالم نحو الغرب، نحو أوروبا التي في معظم تاريخها حكمت العالم بأسره تقريباً. أما الآن فإن هذا المحور يتجه نحو الشرق، ونعلم ماذا يعني ذلك لآسيا. رأينا كيف أن الآفاق الجديدة والمحطات والقطارات السريعة حلت محل خانات القوافل وطرق الجِمال القديمة. لكن ماذا يعني ذلك للغرب؟ أيكون هذا العملاق الذي اعتاد على تغيير الآخرين قد استجاب للرياح الجديدة القادمة من الشرق والمحمّلة بتغييرات سياسية واقتصادية. يبدو أن ما يحدث فجأة في الشرق أو جنوب آسيا، في روسيا أو في الشرق الأوسط، يؤثر في الجميع في أوروبا والولايات المتحدة بشكل أعمق مما يود الأوروبيون والأمريكيون التفكير فيه، لاسيما أنهم يشعرون الآن أن هذه التأثيرات خارج نطاق سيطرتهم فيما يتعلّق ببعض الجوانب المهمة. لقد توسع هذا العالم الجديد، لكن توسعاً من هذا النوع ليس مستحباً دائماً». ويضيف: «أصبح من البديهي القول إن قرننا سيكون قرناً آسيوياً، ففي غضون عقد أو عقدين من الزمن فقط سيكون ما لايقل عن ثلاثة من أكبر خمسة اقتصادات عالمية موجودة في آسيا وهي: الصين، اليابان، والهند، إلا أن النقطة غير المؤكدة في هذا المقياس هي البلد الذي سيحتل المركز الخامس في هذا الترتيب، فمن المحتمل أن تكون ألمانيا، إندونيسيا، روسيا، أو البرازيل. وفي تقديري، إذا كنا نتحدث عن الاقتصاد العالمي خلال عشرين سنة فسيكون هذا البلد هو إندونيسيا. وهذا الأمر يتطلب تصوراً كبيراً لبقاء العالم كما هو تقريباً دون تغيير عندما تهيمن القوة الاقتصادية الآسيوية بشكل جلي».
«ولكن عند التحدث إلى الناس في آسيا تراهم غير متحمسين لهذه القضية إلى حد ما. فهم يعرفون أن مجتمعاتهم لا تزال – باستثناء اليابان – تلحق ركب التطور والتحديث الصعب، وأنها تتخلف عن الغرب في أبعاد مهمة ك: حافة الابتكار، القوة الناعمة، وبالطبع، القوة العسكرية. والأهم من ذلك هو الإشارة إلى فشل «النظام العالمي الآسيوي» و«القرن الآسيوي»لعدم وجود اتفاق بين الدول الآسيوية حول ما يعنيه هذا الأمر، وفي الواقع، تشكّل الاختلافات بين هذه الدول في بعض الحالات تهديدات أمنية خطيرة لاستمرار التوسع الآسيوي. كما أنه على العكس من الغرب، لا يوجد ممثل لهذه الدول كمنظومة آسيوية. وبذلك فإنه عاجلاً أو آجلاً سيعمل هذا التشتت إلى جانب الأزمات الأمنية المتصاعدة، كعنصر فعال في سرعة الأحداث وتفاعلها. في الماضي كانت آسيا تبدو كأنها واحة للسلام والتسامح. أما اليوم فهي موطن للدول الفاشلة التي تمتلك أسلحة نووية، وللصراعات المفتوحة من أجل التفوق العسكري، والمظالم التاريخية وبعض النزاعات الإقليمية الأكثر استعصاء في العالم».
التلاشي الأوروبي
«إن التحول الجديد في مسار الواقع الحالي، كما قال العالم السياسي تشارلز كوبشان، يسير باتجاه عالم لا يهيمن عليه أحد. من بعض النواحي، هذه عودة إلى الماضي. فلقد مررنا بفترات من التاريخ كانت فيها السلطة منتشرة على نطاق واسع عبر مناطق مختلفة، وكانت الرؤى المختلفة للنظام السياسي تعيش جنباً إلى جنب. لكن القول بأن سلالات (تشينغ، المغول، وهابسبورغ) كانت لها وجهات نظر مختلفة جداً عن الدين، والتجارة، والتسلسل الهرمي والأسواق، كل ذلك حقيقة ليست بالأهمية البالغة، لأنهم عاشوا حياتهم الخاصة في عزلة نسبية. وهذا الأمر مختلف في وقتنا الراهن، حيث إن العولمة تجبرنا على العيش معاً بشكلٍ مختلط، ومع ذلك فلدينا جميعاً رؤى مختلفة تماماً تجاه شكل هذا العالم المشترك. وفي هذا الصدد كتب العالم كوبشان: «إن العالم القادم يكاد يكون الأول من نوعه، والذي تعمل فيه قوى عظمى مختلفة وفقاً لمفاهيم مختلفة للنظام. ولكن نظراً لظهور الاعتماد المتبادل على الصعيد العالمي، ستكون هذه هي المرة الأولى التي تتفاعل فيها هذه المجموعة المتنوعة من الأنظمة بشكل مكثف ومستمر مع بعضها».
يبتعد الكاتب عن الأحكام الأكثر إبهاراً ويحاول الاستقرار على حلٍ وسط قائلاً:«إن هذا القرن لن يكون آسيوياً، ولكن لن يكون أوروبياً أو أمريكياً أيضاً، كما كان واضحاً في ال300 أو ال400 سنة الماضية». بل يقترح بديلاً عن ذلك بمصطلح «أوراسيان» كطريقة للإشارة إلى هذا التوازن الجديد بين القطبين. إنه عالم مركب بشكل متزايد- إذ إن أوراسيا نفسها هي كلمة مركبة من أوروبا وآسيا – حيث يتم خلط الرؤى المختلفة جداً للنظام السياسي وإجبارها على العيش معاً.
يبين هذا الكتاب الاعتراض على الطريقة التي نفكر بها في العالم المعاصر من خلال التعامل مع أوروبا وآسيا كفضاء سياسي موحد، وبالطبع هذا الفضاء السياسي غير منظم فهناك مشاريع مختلفة، وأفكار مختلفة، وهناك أشخاص نشيطون بالفعل في تنظيم المهمة. إلا أنه لا يوجد نظام سياسي يشمل أوروبا وآسيا. وفي الواقع، تسبب انهيار الهيمنة الأوروبية في حدوث الاضطراب الحالي، في حين فتح الطريق أمام منظور أكثر توحيداً، وهو القارة العملاقة الجديدة. أما المسألة الحالية فهي كيفية تنظيم هذا الفضاء الموحد. إنها عملية تنافسية بالضرورة بين الرؤى المستقبلية المختلفة، متمثلة بعناصر سياسية مختلفة، جميعها قادرة على التأثير في بعضها وتتفق أساساً على أن النظام السياسي، وهو في نطاق أصغر، لا يمكنه تحقيق أهداف هذه المهمة بشكل كاف. وقد استبدلت هذه الانقسامات الدقيقة بالمجال الموحد لقوى عديدة، تماماً مثلما ينتقل جسم متحلل إلى آخر لتكوين كائنات حية جديدة. فلا شيء ضائع، كل شيء يتحول «فبينما أوروبا تتلاشى، أوراسيا تتحد».
لعبة التأثير
الجديد عن العصر الأوراسي، حسب ما يقول الكاتب، هو عدم وجود تلك الروابط التي بين القارات، إلا أنها للمرة الأولى تسير في اتجاهين؛ حيث إن روسيا والصين ترصدان كيفية جعل التأثير عكسياً في طول الشبكة، والذي إذا لم ينتشر في كلا الاتجاهين عندها لا يمكننا الحديث عن الفضاء المتكامل الذي نحن بصدده، وحيث إن ما يحدث في بقية القارة يجب على المرء أخذه بعين الاعتبار بشكل دقيق كما لو حدث في الوطن. خلال فترة الهيمنة الأوروبية لم يكن هناك سبب للقيام بذلك، فقد كان الأوروبيون يعرفون أن حياتهم تعتمد على قراراتهم وحدها، وأن المستعمرين، في آسيا وأماكن أخرى، لم يفكروا أبداً في التأثير فيما حدث في أوروبا. إن لعبة التأثير الكبيرة ستتركز على المناطق الحدودية بين الكتل الرئيسية التي قد تلعب دور قنوات مستقرة للتواصل السياسي والاقتصادي والثقافي، أو أن تصبح مناطق متنازعاً عليها تمزقها محاولات زعزعة الاستقرار والسيطرة».
«لقد حلت السياسة الأوراسية محل السياسة الأوروبية. وقبل 100 عام كان كل تطور عالمي مهم هو نتاج التفاعل بين القوى الأوروبية المختلفة. في كثير من الأحيان وجدت بقية دول العالم نفسها تنجذب إلى أحداث التنافس بين القوى الأوروبية العظمى بما في ذلك قضية الحرب والسلام البالغة الأهمية. أما ضمن الدول الأوروبية نفسها بشكل منفرد، فكانت الأسئلة الأكثر أهمية ذاتها انعكاساً للسباق الذي جرى على المسرح القاري. واليوم تحدث هذه الديناميكيات على مستوى مختلف بين قوى أوراسية عديدة».
«في هذا الكتاب، أوراسيا ليست مجرد مصطلح لوصف كيان جغرافي، بل يتم استخدامه كمصطلح وصفي لطريقة تفكير خاصة بحقبة جديدة من التاريخ السياسي، إنها تسمية ملائمة للنظام العالمي الجديد لأنها تعبر عن فكرتين أساسيتين، غالباً ما يُنظر إليهما على أنهما متعارضتان؛ تسمية تجمع الفكرتين معاً في كلمة واحدة. فمن ناحية، توحي بأن النظام العالمي الأوروبي وصل إلى نهايته. وعلى العكس من ذلك، ففي الوقت الذي تم فيه الإعلان عن ذلك مراراً تملصت الدول الأوروبية التي تخلت عن أحلامها الإمبراطورية من ذلك الإيحاء، والإحساس بزعمها أن بقية العالم قد تبنت الأفكار والقواعد الأوروبية بمحض إرادتها وهي الآن لم تعد بحاجة إلى توجيه وإرشاد. إن ذلك كان مجرد وهم، لكن يتم الكشف عنه الآن فقط. أما من ناحية أخرى، لا ينبغي الخلط بين هذا والاعتقاد أن تراث أوروبا قد تم التخلي عنه بالمقابل. فما نراه هو أن أولئك الذين يعملون بنشاط أكبر لاستبدال النظام العالمي القديم بشيء جديد هم ورثة التقاليد الأوروبية العلمية والثورية، وعندما يتنافسون على النموذج الأوروبي، فهم يحاولون تقديم بديل أكثر حداثة وأكثر عقلانية وأكثر قدرة على قيادة تحولات المستقبل. رؤاهم هي رؤى جديدة وبديلة بما يتناسب مع المجتمع الحديث».
العالم الأوراسي الجديد
في الجزء الأول من هذا الكتاب، يعاين المؤلف أصول الانقسام بين أوروبا وآسيا، والقوى المسؤولة الآن عن انهيار هذا الانقسام. ويقوم بعد ذلك باستكشاف القارة العملاقة الجديدة التي يتم بناؤها على أنقاض النظام العالمي القديم، والشكل الذي قد يتخذه هذا البناء.
ويتسم الجزء الثاني من الكتاب بالتنظيم على نطاق واسع، إذ يبدو أشبه ما يكون بجولة سياحية، جيو سياسية عبر أوراسيا، ويستند إلى رحلة الكاتب البرية الطويلة، بالإضافة إلى العديد من الزيارات البحثية المستقلة منذ ذلك الحين. يعرض الكاتب فيه أماكن غير معروفة، تبدو لسبب أو لآخر، متجهة إلى لعب دور رئيس في عالم الغد، قائلاً: «في حالات أخرى، هي زوايا مستبعدة في العالم القديم، لأن الافتراضات غير المنظورة تفقد جاذبيتها، وأيضاً يمكن استكشاف طرق جديدة للتفكير بها».
ويضيف: «هذا الكتاب مملوء بمجموعة كبيرة من الشخصيات الأصلية، التقيتها صدفة في معظم الأحيان خلال رحلتي كعلماء الآثار، مقاتلي فنون الحرب، الثوريين، السحرة، وكلاء الخدمة السرية، وزراء الخارجية المتماثلين، رجال الأعمال، المهندسين، الساسة، مصممي الأزياء، الفنانين، ورواة الأساطير بكل أنواعها، حيث يتكلمون بكلماتهم الخاصة».
يخصص المؤلف أغلب الفصول في الجزء الثاني للدور الذي تلعبه الصين وروسيا في السياسة والاقتصاد في القارة الجديدة. ونجده يقول إنه في كل من هذه الحالات «هناك سؤالان رئيسيان: أولاً، ماهي المبادئ السياسية التي تتقدم بها الأنظمة الصينية والروسية؟ وكيف تختلف عن المفاهيم التي لا تزال مهيمنة في التقاليد السياسية الأوروبية؟ ثانياً، كيف تتصور كلّ من الصين وروسيا التكامل الأوروآسيوي؟ وما هو النموذج الذي تملكانه من أجل قارة عملاقة متكاملة؟ وكيف تتابعان خططهما؟ لقد نظمت الصين هذه الخطط تحت ما يسمى«مبادرة الحزام والطريق»، وهي استراتيجية التكامل الاقتصادي العميق».
«مع ربط أوروبا في طرف واحد من القارة مع آسيا في الطرف الآخر، يبدو أن الانتشار الجغرافي للمبادرة أولاً بلا حدود، لذلك أعيدت تسميتها مؤخراً فأصبحت «الحزام والطريق» بدلاً من «حزام واحد، طريق واحد» لتوضيح أن ما يتم التخطيط له هو في الواقع ليس حزاماً واحداً أو طريقاً واحداً، بل هو العديد من الأحزمة والطرق والممرات ومشاريع البنية التحتية، التي يحتمل أن تشمل كل بلد ومنطقة بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادي. فالخطط الروسية – إن وجدت- أكثر سلاسة، ولكنها أيضاً جاءت لتتكاتف حول إطار مؤسسي وسياسي، وهو الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي. إن المناقشة التفصيلية لهذه المشاريع يجب أن تتضمن الطريقة التي قد تكون مرتبطة بها مع الشقيق الأكبر سناً؛ الاتحاد الأوروبي».
«إن العالم الأوراسي الجديد هو عالم من الاختلافات والتناقضات. وهذا يجبرنا على البحث عن خطوط الصراع واستيعاب مفاهيم سياسية مختلفة بشروطها الخاصة، بدلاً من جعلها تتوافق مع الافتراضات القائمة أو مع الجاذبية المهيمنة للثقافة السياسية الأوروبية. ينصب تركيزي على المفاهيم السياسية المختلفة التي يتم تطويرها وإيصالها إلى حد الكمال في أوروبا وروسيا والصين إلى جانب الولايات المتحدة، وهذه ستبقى كأجزاء أساسية للنظام العالمي الجديد، لكن الصورة الكاملة تضم قطعاً أصغر، ويجب تخصيص بعض الوقت لها أيضاً».
نبذة عن المؤلف
* برونو ماسايش سياسي برتغالي، وعالم سياسي، واستراتيجي للأعمال، ومؤلف. درس في جامعة لشبونة وجامعة هارفارد. وهو حالياً زميل غير مقيم في معهد هدسون في واشنطن. كان كبير زملاء في جامعة كارنيجي في أوروبا. كانت ولايته كوزير للدولة للشؤون الأوروبية في البرتغال في فترة تعصف بالبلاد أزمة مالية. وله عدد من المؤلفات.