فرنسا والعدالة المفقودة
يونس السيد
«سبت أسود» جديد.. لكنه في الواقع ملون بمئات آلاف «السترات الصفراء» التي تجتاح فرنسا للأسبوع الرابع على التوالي، بحثاً عن العدالة المغيبة والمساواة المفقودة في بلد يفترض أن له تقاليد ديموقراطية راسخة، فيما تحاول حكومة ماكرون استيعابها بالتراجع حيناً والقمع في معظم الأحيان.
حركة «السترات الصفراء» التي نزلت بعشرات آلاف المحتجين إلى شوارع باريس والمدن الفرنسية الأخرى، بشكل عفوي ومفاجئ، رداً على رفع الضريبة على أسعار الوقود والمحروقات، توسعت وثبت أنها ليست مجموعة من المخربين ومثيري الشغب، المدعومين من اليمين المتطرف، بقدر ما حملت مضموناً كفاحياً اجتماعياً يتجاوز إلغاء رفع الضرائب على المحروقات، الذي تم بالفعل، إلى المطالبة بالمساواة والعدالة الاجتماعية، وبالتالي فقد باتت أقرب إلى انتفاضة شعبية ضد عسف الدولة وسياساتها الاقتصادية منها إلى حالة فوضوية سرعان ما تنتهي إما بالقمع أو بإلغاء بعض القرارات المستفزة لقطاع عريض من عامة الناس.
ولو كان الأمر كذلك لانتهت هذه الحركة منذ الأسبوع الأول، أو لنقل منذ إلغاء قرار رفع ضريبة المحروقات بدلاً من التجذر والتطور نحو تحقيق مطالب جوهرية مغيبة تماماً عن صلب النظام الفرنسي، وبدلاً من أن تتحول هذه الحركة إلى نموذج يمكن استلهامه في دول أوروبية أخرى. ما يؤكد عفوية هذه الحركة أنها لا تملك حتى الآن قيادة معروفة يمكن التفاوض معها، وهو أمر يسبب الذعر للسلطة، التي باتت تعمل على الوتر العاطفي لامتصاص غضب الفرنسيين، لكن يبدو أن الأمر أعمق بكثير، إذ إن غالبية الفرنسيين بكل أطيافهم وألوانهم باتوا يعتقدون أنهم يواجهون صعوبة بالغة في الحصول على لقمة العيش، بسبب سياسات اقتصادية تخدم مصالح فئة قليلة على حساب أغلبية الشعب، وبالتالي فإن معظم هؤلاء المحتجين يريدون تغيير السياسات، وليس فقط القرارات، على نحو يمكنهم من العيش بحرية وكرامة، في بلد يفرض ضرائب على كل شيء، ربما تكون الأعلى في العالم، لكن النظام الضريبي المتبع يجيرها لخدمة الأقلية الثرية المتحكمة في الاقتصاد والثروة ويبقيها كما هي على عامة الشعب، ويدرك المحتجون أن إلغاء هذه الضرائب كلياً ضرب من المحال، ولكنهم، على الأقل، يريدون عدالة في توزيعها، كما يريدون العدالة في كل شيء، وتمكينهم من رفع قدرتهم الشرائية، وتوفير المرافق والخدمات العامة للجميع، كالمدارس والمستشفيات ووسائل النقل بشكل يتناسب مع إمكانياتهم.
قد لا تخلو حركات من هذا النوع من العنف وإشعال الحرائق وعمليات النهب والسلب والتخريب انتقاماً من السلطة، لكن العنف المستخدم بالمقابل من جانب قوى الأمن كان أكثر استفزازاً إلى حد إثارة غضب من لم يشارك في الاحتجاجات ودفعه للانخراط فيها، حيث التحق الطلاب بهذه الاحتجاجات، وحيدت الشرطة نفسها بإعلان الإضراب العام من دون أن تلتحق بها، ما يعني أن الحركة الاحتجاجية باتت تتغلغل أكثر فأكثر داخل المجتمع الفرنسي، وهناك مؤشرات على تزايد الوعي لديها ووضوح مواقفها وإمكانية تأطيرها لتصبح حركة منظمة، وبالتالي يجدر بالحكومة الفرنسية التوقف ملياً وإجراء مراجعة عميقة لسياساتها على كل المستويات ثم اللجوء للحوار مع هذه الحركة التي باتت تتهددها وتنذر بإسقاطها.
younis898@yahoo.com