فقدان التفوق العسكري
تأليف: أندريه مارتيانوف
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
يبدو أن الجيش الأمريكي فشل في مضاهاة الدعايات المتعددة حول تفوقه، خاصة عند النظر إلى السجل المتواضع من الإنجازات العسكرية التي حققها. فمنذ الحرب الكورية، لم تنتصر الولايات المتحدة في أي حرب ضد أي عدو، وهذا يكشف عن خلل في التطبيق الفعلي للقوة العسكرية الأمريكية في العالم. يتوقف هذا العمل عند التفوق العسكري الأمريكي، ومدى صحته وتأثيره، ويسلط الضوء على القوة الروسية والصينية التي باتت في حكم المنافس لها.
للثقافة الأمريكية الاستثنائية جذور عميقة في المؤسسة الأمريكية الحاكمة، التي لاحظها ألكسيس دي توكفيل في عمله المؤثر «الديمقراطية في أمريكا» في عام 1837. ولكن في حين أن الاستثنائية ليست فريدة من نوعها بالنسبة لأمريكا، فإن شدة إيمانها وعواقبها العالمية هي الفريدة. وقد أدت هذه النظرة عن استثنائية الولايات المتحدة إلى إساءة تفسير العوامل المسببة للأحداث الرئيسة في القرنين الماضيين بشكل فادح، وفي بعض الأحيان يكون عمداً. وبناءً عليه، تم استخلاص الاستنتاجات المغلوطة، وإعطاء دروس خاطئة للغاية. ويبدو هذا الأمر أكثر وضوحاً في الفكر العسكري الأمريكي وتطبيقه الفعلي للقوة العسكرية.
يستكشف هذا الكتاب الفرق الكبير بين المقاربة الروسية والأمريكية للحرب، والتي تتجلى في جميع جوانب الأنشطة من الفن والاقتصاد، إلى الثقافات الوطنية المتعلقة بها. كما يوضح حقيقة أن «النخبة» الأمريكية لم تعد تعتقد أن الحقائق والقوى الاقتصادية والعسكرية والثقافية الروسية تعمل على معالجة قدرات روسيا الجديدة والعالية في مجالات الحرب التقليدية وكذلك الحرب الإلكترونية والفضاء؛ ويدرس بعمق عدة طرق يمكن للولايات المتحدة ببساطة أن تدخل في صراع مع روسيا وما يجب فعله لتفاديه.
يقع الكتاب في 250 صفحة صادر عن دار «كلاريتي بريس» في مايو 2018 باللغة الإنجليزية. ويتكون جدول المحتويات فيه من مقدمة بعنوان: «النرجسية الأمريكية الخطيرة»، وثمانية فصول هي: الأول: المقاييس الحقيقية للقوة العسكرية. الثاني: ولادة الميثولوجيا العسكرية الأمريكية الحديثة. الثالث: عدد من التفسيرات الخاطئة للحرب العالمية الثانية. الرابع: عجز النخب الأمريكية عن فهم حقائق الحرب. الخامس: العجز التربوي والرسوم الكاريكاتورية الثقافية. السادس: التهديد بالتضخم والتصوير الإيديولوجي وأسئلة السياسة العقائدية. السابع: الفشل في التعامل مع التجديد الجيوسياسي الحديث. الثامن: شبح «القوة المجوفة». وفي نهاية العمل يقدّم الكاتب خلاصة تحت عنوان: «تهديد سوء التقدير العسكري الأمريكي الضخم»، ثم ينهيه بخاتمة بعنوان: قواعد بوتين في اللعبة: السلام من خلال القوة.
حقيقة مخفية
يرى الكاتب أندري مارتيانوف بحكم خلفيته العسكرية وخبرته في المجال العسكري الأكاديمي، أن البعد التكنولوجي «للاستراتيجية» الأمريكية قد طغى تماماً على أي اهتمام بالمتطلبات الاجتماعية والثقافية والتشغيلية وحتى التكتيكية للصراع العسكري (والسياسي).
ويرى أنه «مع ظهور حرب باردة جديدة مع روسيا، تدخل الولايات المتحدة فترة جديدة من الاضطراب الجيوسياسي، وهي غير مستعدة لها تماماً سواء فكرياً أو اقتصادياً أو عسكرياً أو ثقافياً، لمواجهة حقيقة كانت مخفية خلال السنوات السبعين الماضية خلف ستار من خداع استراتيجي لا ينتهي بشأن روسيا».
كما يقول الكاتب: «قد يؤدي مجيء نظام الدفاع الجوي الثوري S-500 إلى إغلاق المجال الجوي لروسيا وحلفائها بالكامل في وجه أي تهديدات جوية أو بالستية. هذه التطورات وحدها تقلل تماماً من قيمة الملاحة القتالية في خط المواجهة للقوات الجوية الأمريكية التي تكلفها أرقاماً فلكية، واستثمارها الهائل في الفوائد المحدودة جداً للاختراق والتسلل».
ويضيف: «تقنيات الكشف عن أشعة ضوئية ستجعل جميع النفقات على الشبح، دون استثناء، مجرد إهدار للمال والموارد. وكما هو معروف لا يوجد خبراء أفضل في كيفية إهدار الموارد من أولئك الذين يرعاهم المجمع الصناعي العسكري الأمريكي».
القوة البحرية
كما يتوقف الكاتب عند القوات البحرية العسكرية الأمريكية قائلاً: «الوضع ليس أفضل في البحر. إن إطلاق الصاروخ زيركون هايبر-سونيك 3 إم 22 في عام 2017 يعيد بالفعل تعريف الحرب البحرية، ويجعل حتى المناطق البحرية النائية منطقة»بدون شراع»لأي مقاتلة أمريكية كبرى على السطح، وخاصة حاملات الطائرات. وفي الوقت الحالي، وفي المستقبل المنظور، لا توجد أي تكنولوجيا قادرة على اعتراض مثل هذا الصاروخ». مضيفاً: «لا تزال البحرية الأمريكية تحتفظ بقوة تحت سطح البحر من الطراز العالمي، ولكن حتى هذه القوة ستواجه صعوبات كبيرة عند مواجهة تحدي الغواصات غير النووية القاتلة الصامتة والقادرة، إلى جانب القوات البحرية المضادة للغواصات البحرية والقوية، على إغلاق سواحلها بالكامل أمام أي نوع من التهديد. وبمجرد الوصول من خلال السواحل والبحر وحتى بعض المناطق في المحيطات، يتم إغلاقها، كما هي الآن، بالتالي فإن أحد الركائز الأساسية لعقيدة واستراتيجية البحرية الأمريكية أي القدرة على إظهار القوة ينهار..».
ويستشهد برأي الراحل سكوت شوغر الذي تحدث عن التناقض البحري الأمريكي قائلاً: «عندما تتجاهل قوة قارية مثل الولايات المتحدة حواجزها الدفاعية الطبيعية وتبني أساطيل قتالية كبيرة، فإنها تحولت من واقع جيوسياسي إلى نوع من التظاهر المزعج. هذا النوع من البحرية موجود فقط لهزيمة القوات البحرية الأخرى التي تحمل النزعة ذاتها. وهذا لا يمكن تبريره إلا في حالة وجود أساطيل أخرى مماثلة لتلك الموجودة بالفعل».
ويضيف: «لا توجد سفن بحرية تتمحور حول الناقلات، بخلاف البحرية الأمريكية، ولن تكون موجودة في المستقبل القريب حيث إن جميع اللاعبين البحريين الرئيسيين في العالم، باستثناء الولايات المتحدة والقوات البحرية الملكية البريطانية، اتخذوا من عقيدة القتل المميت حتى الصميم نمطاً لهم، واستمروا بالاستثمار في قدرات خطيرة ضد النقل البحري عبر مجموعة كبيرة من المنصات، مع الاتحاد السوفييتي، ومع روسيا اليوم، التي تعمل على تطوير الأسلحة الفتاكة الفائقة والضخمة. وتصبح صواريخ كروز الجديدة التي تستطيع تنفيذ هجوم بعيد المدى، أدوات فعالة للغاية في الردع والقوة ضد أي نوع من الخصوم».
كما يستشهد الكاتب برأي القومى الأمريكي المتشدد بات بوتشانان الذي قال بمرارة: «لم يعد أحد في مأمن، بعد الآن». فالولايات المتحدة، سواء كانت راغبة أو غير راغبة، خلال العشرين سنة الماضية، من خلال سلسلة من المغامرات العسكرية التي تم تصويرها بشكل سيىء وخاطئ إلى حد كبير، كشفت الحدود المأساوية لقوتها وقدراتها العسكرية والجيوسياسية، ولاحظ العالم ذلك. وبعيداً عن التبادل النووي، لا يمكن للولايات المتحدة أن تهزم روسيا أو الصين بشكل تقليدي في مواقعها الجغرافية المباشرة. إن القوة العظمى العسكرية – التي لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بها بالتأكيد – والتي لا تستطيع هزيمة أي قوة عظمى أخرى، هي بالكاد تجسيد جيد للمصطلحات العسكرية الفائقة التي تستخدمها لوصف نفسها».
ويرى أن إعلان أمريكا باستمرار عن نفسها على أنها كلية القدرة عسكرياً دون تقديم دليل مقبول عالمياً يثبت هذا القدر من القوة، فذلك لا يشكل حالة صحية لمثل هذه الادعاءات. وهذه ليست الطريقة التي تدار بها الأشياء في الواقع، كما هو الحال مع أي شيء في الحياة. يمكن لحملات الإعلان والدعاية أن تمضي بعيداً، وتصبح أقل فعالية بشكل متزايد كلما مر الوقت دون تقديم سجل إنجاز حقيقي. لكن المشكلة مع الجيش الأمريكي هي أعمق من ذلك….
روسيا العنيدة
خلال الحرب الجورجية-الروسية في أغسطس 2008، والتي شهدت محاولة من الدولة الجورجية للسيطرة على منطقة جنوب أوسيتيا الانفصالية والمؤيدة لروسيا والمستقلة بحكم الأمر الواقع، مما أدى إلى تدخل عسكري روسي. وصفت روسيا العمليات لجيشها الثامن والخمسين ب«فرض السلام بالإكراه». ويعلق الكاتب على ذلك: «إنه وصف اصطلاحي مناسب عندما نتذكر ما كان على المحك في ذلك الوقت. في الحقيقة، انتصر الروس في تلك الحرب، وأجبروا جورجيا، حقاً، على القبول بوضع سلمي أكثر. وفق فلسفة المنظر والكاتب العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز، فإن روسيا قد حققت الهدف الأساسي من الحرب من خلال إجبار العدو على المضي وفق إرادتها، والتي كانت تهدف إلى إبقاء السلام والاستقرار في المنطقة. الروس، كما أظهرت الأحداث في السنوات ال19 الماضية، لم تعد لديهم أوهام حول إمكانية من أي نوع بشأن وسيط غربي متحضر مع الغرب مجتمعاً، أقله مع الولايات المتحدة التي تستمر في العيش ضمن فقاعتها التي تعزل فيها روسيا عن أي صوت خارجي من أصوات المنطق والسلام»، وفي نهاية تعليقه يقول: «السجل الأمريكي العسكري الكئيب خلال العقود القليلة الماضية لا يتطلب أي إسهاب خاص، لأنه سجل من الكوارث الإنسانية والعسكرية».
ويشير إلى أن كلمة فلاديمير بوتين في 1 مارس، 2018 أمام الجمعية الاتحادية الروسية لم تكن حول انتخابات روسيا الرئاسية المقبلة، كما يشير إلى ذلك العديد في الغرب المهووس بالانتخابات. بدلاً من ذلك، كانت كلمته محاولة لإجبار النخب الأمريكية بطريقة مماثلة، على الالتزام بالسلام، أو على الأقل الالتزام بشكل من العقلانية، بالنظر إلى أنها (أي النخبة) منفصلة تماماً عن الوقائع العسكرية، والجيوسياسية، والاقتصادية لتشكيلات القوى الجديدة الناشئة في العالم.
ويضيف: «كما كانت الحالة مع جورجيا في 2008، فإن توضيح بوتين لقوى الفرض الروسية كانت قائمة على القوة العسكرية، فبرغم العيوب الفعلية الموجودة، استطاع الجيش الروسي التخلص من القوة الجورجية المدربة أمريكياً والمجهزة بشكل جزئي في غضون خمسة أيام، فتكنولوجية الجيش الروسي وطواقمه، والفن العملياتي لديه كانت ببساطة أفضل بكثير. من الواضح أن مثل هذا السيناريو السريع وغير المؤلم بشكل نسبي غير ممكن بين روسيا والولايات المتحدة، ما لم يتم نسف الأسطورة الأمريكية عن التفوق التكنولوجي والانخراط العسكري المعد مسبقاً».
هل تنحدر الإمبراطورية؟
في ختام هذا العمل البحثي العميق والدقيق يقول الكاتب إنه «لا يمكن إنكار أن الولايات المتحدة دولة عظمى ويوجد بين شعبها نوابغ بشكل حقيقي. إنها دولة قوية وقوة عظمى مع تاريخ قصير لكنه ساطع. ولا يزال رواد الأعمال وعمالقة التكنولوجيا الأمريكيون يبهرون العالم كل يوم. لكن في الواقع، هناك انحدار حقيقي لكل ذلك، إنه تعفن حقيقي يصبح أكثر وضوحاً مع مرور كل يوم. وقد سبق أن حدث هذا الأمر مع إمبراطوريات أخرى، أبرزها وأحدثها الإمبراطورية البريطانية العظمى.
ويقول:»اليوم، نلاحظ المستوى الكارثي لحالة الابتعاد عن التصنيع في الولايات المتحدة، مع عدم تعافي أهم المراكز في الولايات المتحدة من أزمة 2008، أو عندما نرى أن الأزمة الأفيونية تضرب المدن الأمريكية، أو عندما نحصي العدد الحقيقي للناس الذين لا يزالون عاطلين عن العمل، أو كانوا في السابق من دون عمل، نضطر إلى تذكر مصير أم أمريكا: الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، وكيف أن السيناريو ذاته يتكرر، مع بعض التعديلات، أمام أعيننا في الولايات المتحدة.
لكن إذا كان الرحيل البريطاني من العظمة متوارياً ضمن الأحداث المؤثرة في الحرب العالمية الثانية، ومع اعتبار الانسحاب من قناة السويس ختاماً قانونياً لها، فإن الرحيل الأمريكي يهدّد بإعلان حرب عالمية نووية حرارية، والتي يمكن أن تبيد الحضارة الإنسانية برمتها، وهذه عاقبة يجب منعها بكل السبل الممكنة».
نبذة عن الكاتب
أندريه مارتيانوف خبير في القضايا العسكرية والقوات البحرية الروسية. ولد في باكو، اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في عام 1963. تخرج من أكاديمية (Kirov Naval Red Banner)، وشغل منصب ضابط في موقع سفن وطاقم خفر السواحل السوفييتية حتى عام 1990. شارك في الأحداث في القوقاز التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي. في منتصف تسعينات القرن الماضي، انتقل إلى الولايات المتحدة حيث يعمل حالياً كمدير مختبري في مجموعة طيران تجاري. وهو مدون على مدونة معهد البحرية الأمريكية باستمرار.