قضايا ودراسات

فقه التعسير

خيري منصور
لم يُعْجِب بعض الغلاة والمتشددين أن الإسلام دين يسر، فتولوا مهمة تعسيره وابتكار كل ما من شأنه أن يضاعف من سوء الفهم، وكان سبيلهم إلى ذلك، إما تقويل النصوص والمرجعيات بحيث تلبي رغائبهم وإما إشعال الخيال في أشد أبعاده سلبية، لتحويل الحلم إلى كابوس والوعظ إلى وعيد، لهذا نجد عند قراءة ما يكتبون أنهم ينفقون معظم الوقت والجهد من أجل التعسير لا التيسير، ومنهم من يسترضي نرجسيته وأنانيته بهذا العمل كي يبدو فقيهاً لا يُشقّ له غبار، وقد ظهر أمثال هؤلاء في كل العصور، لكن عصرنا بما أحرزه من تقدم علمي خصوصاً على صعيد التواصل، قدم لهؤلاء فرصة ذهبية كي يتظاهروا بالعلم، ورغم أن العلم مقترن في أعلى مستوياته بالتواضع إلا أن الغلاة ليسوا كذلك، وقد يضطرون للتعسير، وإثارة عواصف من الغبار لحجب المشهد الذي يتحدثون عنه، ولإخفاء ما لديهم من قصور، وهذا بحد ذاته نقيض الفصاحة والحصافة معاً، لأن البلاغة تعني القدرة على الإفهام، ومن هنا كانت عبارة «ما قل ودل» تعبيراً دقيقاً عن المهارة في الإيجاز.
فقه التعسير يحذف من النصوص مرونتها وقابليتها للتأويل، بحيث تعبر الأزمنة، وتصلح لكل زمان ومكان.
وقد انتقلت عدوى هذا الفقه إلى دور علم وأكاديميات ومعاهد دينية فأصبحت الحمولة باهظة على الطلبة، لأن أكثرها ليس من صلب الدين أو من صميم محتواه ومرجعياته، وهنا نتذكر كتاباً كرسه مؤلفه ويليام إبسون للتفريق بين الغموض والإبهام، فالغموض قد يتلألأ كالماس ويشف عما في داخله بعكس الإبهام الذي يشبه الفحم، لأنه منغلق وآفاقه مسدودة.
إن أول خطوة عملية في طريقة تحديث الخطاب الديني هي إقامة فاصل بين فقهين، أحدهما احترف التعسير ومراكمة القشور على النصوص، والآخر اهتدى إلى مهمته من أقصر الطرق.
أما المفارقة فهي أن محترفي فقه التعسير، غالباً ما ينتهون إلى تفسير الماء بالماء، ولا يضيفون شيئاً يستحق ما بذلوه من جهد ووقت في المواربة والمراوغة والتلاعب بالألفاظ.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى