فلسطين والخطر التاريخي
محمد نورالدين
إعلان الولايات المتحدة أنها لن تجدد الرخصة لبقاء ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن هو محطة في تصفية القضية الفلسطينية. ومع أن وجود المكتب رمزي ولا قيمة عملية له، إلا أن الإدارة الأمريكية لم تستطع تحمل وجوده. هذا مجرد واحد من المواقف العدائية الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية التي لم تتوقف منذ تأسيس دولة الاحتلال. لكن المرحلة الحالية هي الأخطر على مستقبل فلسطين وأهلها وأرضها.
لم توفر أمريكا فرصة واحدة مهما كانت صغيرة لكي تثبّت الاحتلال «الإسرائيلي»، وكانت تنتج طائرات لتستعملها «إسرائيل» قبل الولايات المتحدة نفسها، وفي حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973 كانت الدبابات الأمريكية تنزل من الطائرات بطواقمها الأمريكية في العريش وسيناء لتدفع عن «إسرائيل» شر هزيمة ماثلة.
وكانت الاندفاعة الأمريكية الأقوى عندما أخرجت مصر من الصراع فاختل التوازن لصالح العدو. ومن ثم كانت اتفاقيات سلام لا تمت بصلة إلى السلام، آخرها اتفاقية أوسلو التي حوّلت الفلسطينيين إلى رجال شرطة تحمي الاحتلال في الضفة الغربية وغزة.
أغلقت السلطة الفلسطينية كل أبواب المقاومة وأعلنت أنها ستكون سلمية. مع ذلك فإنها لم تكن لا مسلحة ولا سلمية واكتفي بهبّات عفوية شعبية، خارج إرادة السلطة، لكنها لم تتطور لتتحول إلى انتفاضات كبرى.
وعلى هذا المنوال سارت القضية الفلسطينية. فلسطينيون محاصرون من العدو من الداخل ومن الخارج. فالتواطؤ على القضية لم تتقلص مساحته، لكن ما تواتر من أنباء في الآونة الأخيرة كان مذهلاً وصادماً. يمكن أن يتوقع العربي والفلسطيني أي شيء إلا أن تُصفى القضية بهذه الطريقة.
كان العرب يريدون تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وفي العام 1967 قبلوا بحل الدولتين والاعتراف ب«إسرائيل» في حال وافقت «إسرائيل» على الانسحاب من الأراضي المحتلة، وبعد ذلك بدأت سبحة التنازلات العربية. اتفاقيات انفرادية مع دول عربية واستفراد «إسرائيلي» بمنظمة التحرير الفلسطينية. تُرك الفلسطينيون لحالهم بعد اتفاق أوسلو. ومن حل الدولتين بدأت السيناريوهات والمؤامرات تتوالى.. دولة فلسطينية منزوعة السلاح والمعابر الحدودية بيد «إسرائيل»، أو بمراقبة دولية. المستوطنات في الضفة تتكاثر والمستوطنون في طريقهم ليكونوا مليونا. لم يعد ممكناً حل الدولتين. بات الحل هو «دويلة» تتضمن ما يشبه الحكم الذاتي للفلسطينيين. بعض الحقوق الثقافية والسياسية. اللاجئون سيبقون في شتاتهم إلا من شاء من تلقاء نفسه العودة.
خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذه، والتي وصفت ب«صفقة القرن» بدأ التداول فيها في الربيع الماضي، وهي ترتكز على إغراءات اقتصادية للفلسطينيين في البحر قبالة غزة، وفي البحر الميت ومساعدات، لكنها تتجاوز وتهمل عناصر السيادة والاستقلال والهوية وحق العودة. كأن الشعب الفلسطيني فم فاغر لا ينتظر سوى لقمة خبز، فيما لقمة الكرامة هي التي تجعله كائناً حراً وعزيزاً ومستقلاً.
لا يلومن أحد الولايات المتحدة والغرب. ففي الذكرى المئوية لوعد بلفور والذي كان خيالاً تكاد القضية الفلسطينية هي التي تختفي. وتتجرأ أصل البلاء انجلترا على تهنئة «إسرائيل» بمئوية الوعد ولا تعتبر أن هناك ما تخجل منه وما تعتذر عنه.
هذا الغرب لا يكتفي بمحاولة طمس القضية والهوية الفلسطينية، بل هو يعمل دائماً على زعزعة وحدة الدول العربية وإنهاك قواها بألف وسيلة ونهب ثرواتها البرية والبحرية والإطباق على ممراتها الاستراتيجية.
ولم يكن ما سمي بـ «الربيع العربي» مجرد صدفة. فمنه انطلقت أوسع عملية تفتيت للمجتمعات العربية وبث التفرقة داخلها، تارة على أسس دينية أو مذهبية، وتارة على أسس إثنية. فانشغل العرب في أكبر عملية حرف عن قضاياهم الأساسية وفي مقدمها القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم من كل الضعف والبؤس السياسي والاقتصادي الذي يمر به العرب فلا ضير أن تمر الأمة بلحظات عجز وانهيار وتخلف. لكن يبقى المهم ألا تُمنح هذه الدولة المغتصبة صك براءة وشرعية لوجودها.
ليس عيباً أن تنهزم وتتراجع بل العيب كل العيب أن تذعن وتخضع وتخسر كرامة لا تعوُض وتعرف ذلاً لا يرحم. فلنبقِ شيئاً يفتخر به أحفادنا ويتباهون به إلى حين تنقلب الموازين والأقدار.