فوائض القوة.. زيارة إلى جامعة بكين
عبد الله السناوي
«لسنا قوة عظمى.. نحن دولة نامية من العالم الثالث، ما زلنا تلاميذ على مقاعد الدرس والتعلم من تجارب الدول الأخرى».
بتلك العبارة القاطعة يوصف الصينيون موقعهم على خرائط القوة والنفوذ والمكانة في النظام العالمي، كأنها حقيقة نهائية لا تقبل تأويلاً، أو تراجعاً.
كيف؟.. ولماذا؟
«هناك مناطق واسعة تعاني فقراً مدقعاً ومن أولوياتنا تحسين أحوالها ومستويات معيشتها قبل ممارسة أية أدوار تنتسب لعظمة القوة، ولا تنس أن المتوسط السنوي لدخل المواطن لا يتجاوز 8000 دولار، وهو أقل مما يحصل عليه مواطنو بعض الدول النامية».
بيقين الأرقام فإن الصين عملاق اقتصادي يكاد يقفز إلى المرتبة الأولى في الاقتصادات العالمية على حساب الولايات المتحدة، التي تتمتع بثقل القوة العظمى الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما تتوافر لديها ترسانات سلاح متراكمة وصناعات عسكرية متقدمة.
رغم تراكم المال والسلاح إلى مستويات قياسية فإن الصين ليست في عجلة من أمرها للعب أية أدوار عظمى، كأنها تجلس بصبر على حافة النهر في انتظار جثة عدوها تأتيها طافية.
سياسة النفس الطويل من مقومات الحكمة الصينية، كما صاغها فيلسوفها الأكبر كونفوشيوس في العهود الغابرة. إذا لم تقرأ باستيعاب ذلك الفيلسوف القديم يصعب عليك أن تفهم الشخصية الصينية، أو أن تلم بمفاتيحها الرئيسية. الحكمة في تعاليمه أن تعرف مواطن ضعفك قبل قوتك.
أكثر ما يثير الالتفات في التجربة الصينية قدر التواضع في النظر إلى حجم الإنجاز وحجم تراكم خبرة بناء الدولة دون صدام مع شرعية الثورة، التي قادها إلى النصر عام 1949 زعيمها ماو تسي تونغ.
بعد رحيل ماو عام 1976 دخلت الصين لمدة عامين في صراعات سلطة وفترة حيرة في أي طريق تذهب، حتى أمسك بمقاليدها دينج هسياو بينج نائب رئيس الوزراء التاريخي شواي لاي وتلميذه الأقرب وشرع في وضع اللبنات الأولى لسياسة الانفتاح الاقتصادي، وفق ما أطلق عليه «اقتصاد السوق الاجتماعي».
النتائج فاقت كل توقع على نقيض ما حدث في مصر باسم الانفتاح الاقتصادي، الذي استحال إلى نوع من التخريب المنهجي للمقدرات العامة ونهب الثروات الوطنية وتفشي الفساد وإلحاق البلد كله باستراتيجيات التبعية على المستويات كافة.
في أقل من 40 سنة بنيت الصين من جديد على أسس حديثة، حركة الاستثمار تمضي بكامل قواعد الإدارة الرأسمالية في إطار مخطط الدولة، التي أتاحت للمنتجات العالمية الشهيرة من وجبات الطعام السريع إلى السيارات والملابس والأجهزة الإلكترونية أن تتواجد في سياق صيني محكم، يراكم الخبرة بالحداثة ويتيح لمواطنيه من أبناء الطبقة الوسطى ذات مستوى ما يتمتع به نظراؤهم في العواصم الغربية.
هدمت أغلب أحياء العاصمة وبنيت من جديد، ناطحات سحاب تستولي على مشاهدها كأنها تنافس نيويورك، ومترو أنفاق يفوق نظيره الباريسي، وشوارع فسيحة تنتظم فيها حركة المرور بسلاسة، رغم الكثافة السكانية باستثناء فترات الذروة.
بأي نظرة عابرة على الحياة اليومية بالشوارع والمواصلات العامة والمطاعم والأسواق فإن بكين الاسم الجديد للعاصمة بعد توسعها وتمددها أكثر مدن العالم ارتباطاً بالتقنيات التكنولوجية الحديثة.
يمكن وصف التجربة الصينية ب«رأسمالية الدولة». ويصعب نسبتها إلى أفكار ماو إلا بقدر تراكم التجربة، فقد فتح الباب واسعاً للتغيير ونقل البلد كله من حال إلى آخر، من التخلف المفرط وحروب الأفيون ومستوطنات الذباب إلى القرن العشرين وحقوق مئات الملايين في العدالة والتنمية والحياة بكرامة.
الانتساب إلى ماو مسألة شرعية، غير أن الماوية، من حيث هي أفكار وتصورات وسياسات تكاد أن تكون قد طويت. احترام إرث الماضي وتصحيحه دون صخب مكنا بلداً يبلغ عدد سكانه 1.4 مليار نسمة من عبور أي منزلقات تعوق تقدمه خطوة بعد أخرى على طريق الألف ميل باستلهاما الحكمة الصينية الشهيرة.
حسب نبوءة نابليون بونابرت فإن العالم سوف يتغير إذا ما استيقظ العملاق الصيني من سباته الطويل. الغرب يترقب ما قد يحدث في المستقبل والصين أمامه لغز يستعصي على الفهم والإحاطة، رغم أن حجم ما ينشر عنها في الميديا الغربية يفوق في بعض الأحيان اهتمامها باقتصادات بلدانها.
في محاضرة دعيت لإلقائها بجامعة بكين العريقة بتاريخها والحديثة بمناهجها عن الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط، لفت إلى أن الصين مدعوة خلال عشرين سنة على أعلى تقدير لإجابة أخرى عن سؤال التحول إلى قوة عظمى لها نفوذها في الملفات الدولية.
بصياغة مباشرة: كيف سوف تتصرف في فوائض القوة المتراكمة التي سوف تتراكم؟
تراكم المال والسلاح يوفر أساساً متيناً للقوة العظمى، لكنه لا ينهض وحده بالمهمة ما لم يستند إلى بنية سياسية وإعلامية تلهم أوسع مشاركة وتضخ الدماء في بنية النظام وقدرته على التجدد والتحديث والحفاظ بالوقت نفسه على قوة الدفع.
الصينيون يريدون أن يطلوا على ما يحدث في الشرق الأوسط، وأن يستمعوا عن قرب ويناقشوا بعمق رؤية الآخرين لهم.
تجدر هنا الإشارة إلى ثلاثة أمور رئيسية:
الأول مدى تقدم مستوى الدراسات العربية في جامعة بكين، وأساتذتها رصيد استراتيجي لصناعة القرار الصيني في الشرق الأوسط وليسوا كما على الهامش.
والثاني أن كل من يعمل في الدراسات العربية من العميد إلى أحدث طالب يحمل اسماً عربياً مستقى من الصينية التي هي لغة رموز ومعان، لا يخاطب في قاعات الدرس وردهات الكلية إلا به مثل «أمين» و«عثمان» و«عامر» و«شاهين» و«جواد» و«منصور» و«ياقوت»، وهذه من طبيعة التقاليد الصينية التي تطلب التماهي المقصود مع الثقافات الأخرى حتى يمكن استيعاب روحها وجوهرها.
والثالث يكشف حجم التقصير، الذي ارتكبناه بحق أنفسنا عندما انسحبنا من الشرق الأقصى والتحالفات معه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد».
في مكتبة المطار توافرت على الأقل خمسة كتب «إسرائيلية»، بعضها مترجم بالإنجليزية وبعضها الآخر للصينية، بينما غابت تماماً أي كتب عربية.
وكانت تلك مسؤوليتنا لا مسؤولية غيرنا في إهدار إرث التاريخ، الذي عرف الصينيون كيف يصونونه ويدفعونه بالتصحيح والتراكم إلى آفاق المستقبل المفتوحة.