في عوار استخداماتنا للمصطلحات السياسية!
كمال الجزولي
لعل خطل استخدامنا الملتبس، أحياناً، لمصطلحي «العلمانية» و«الديموقراطية» بالتبادل يتمثل في الخلط، الذي ما نفتأ نقع فيه كلما كان المقصود أن المصطلح الأول مسيج بدلالة المصطلح الثاني، فقط، وبالضرورة!
لقد انحسم تعريف «الديموقراطية» منذ اقترن مفهومها، نهائياً، بالإقرار بالتعدد، والتنوع، والحريات العامة، والحقوق الأساسية، وسيادة حكم القانون، والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع. أما تعريف «العلمانية» فيبدأ من حقيقة أن لكل حضارة «عقلانيتها»، وأن «العلمانية»، أو «اللائكية» في الطور الفرنسي، مفهوم أنتجه الفكر البرجوازي الأوروبي، مطلع عصر الحداثة، بحقبه الثلاث «النهضة الإصلاح الديني التنوير»، في معنى تحرير «السلطة الزمنية» من قبضة الكنيسة، بتأثير «فلسفة الأنوار»، التي هيأت لصعود مناهج فلسفية خارج اللاهوت.
«العلمانية»، إذن، ثمرة «عقلانية أوروبا» الحداثية، وقد تكرست كأسلوب فلسفي يفترض قدرة «العقل» على تعليل مختلف الظاهرات. وتعود أغلب المناهج الغربية إلى الفلسفات اليونانية والرومانية التي انطلق منها فلاسفة الإلحاد البرجوازي، محاولين تجاوز الدين، خلال القرنين 18 و19، فجعلوا من نقده عملهم الأساسي. ونشير، هنا، خصوصاً، إلى «الوضعية» الأكثر تأثيراً على علم وثقافة الغرب.
أما «الماركسية»، فمع تشكلها في رحم «العقلانية الغربية»، إلا أنها انتقدت مغالاتها في قدرة «العقل» على تجاوز التجربة الحسية؛ بل إسقاط أهمية الحواس ذاتها.
جميع هذه الفلسفات مشدودة، على نحو أو آخر، إلى ملابسات صراع «الإكليروس الكنسي» و«المجتمع المدني»، الذي وسم التاريخ القروسطي الأوروبي، وبلور «عقلانية» الغرب، وأنتج مفاهيم «الحداثة» البرجوازية، ومن بينها «العلمانية»، دون أن نغفل أنها، وبرغم كونها جنين «العقلانية» الأوروبية الوضعية، إلا أنها لم تعد، الآن، تفترض الإلحاد، بالضرورة، أوإقصاء الدين من الحياة، كما في فرنسا سابقاً؛ بل عادت لتبقى مؤمنة، كاثوليكية أو بروتستانتية.
لكن مصطلح «العلمانية» أسِئ استخدامه في بلداننا؛ فمن جهة خالط مفهوم «الديموقراطية» لدى البعض، حتى أضحى صنواً لها، مع أن «الشمولية» يمكن أن تكون «علمانية»؛ ومن جهة أخرى أضحى صنواً لمعاداة «التدين»، خصوصاً لدى الاشتباك التقليدي بسؤال «الدين والدولة». فرغم أن «الدولة الدينية» مستحيلة إسلامياً، إلا أنها مطروحة ضمن مشروع الإسلام السياسي، ببنائه الرأسي الضيق، وشيطنته للخصوم.
بالمقابل، نشأت بعض القوى التقليدية على «بداهة عقلانية» تنفي أي تعارض بين الإسلام و«الديموقراطية»؛ لكنها لم تسع لإسناد بداهتها هذه بفقه يميز بين «الإسلام» و«تاريخ الدولة الإسلامية»، فتركت للتيار الإسلاموي السلطوي أن يزايد عليها بالترويج لتعارض مزعوم بين «الديموقراطية» و«الشورى»!
أما بعض الأحزاب الماركسية فبرغم انتباهها المبكر لضرورة إعادة صياغة الإشكالية من منظور «العقلانية الإسلامية» التي تجعل من الدين طاقة دفع لحراكات الشعوب، واجتراحها، مؤخراً، كما في السودان مثلاً، مصطلح «الدولة المدنية» بديلاً عن «الدولة العلمانية»، إلا أنها لم تبذل، تاريخياً، المستوى الفكري المطلوب؛ لفضح رميها ب «الإلحاد»، كمحض مزايدة مكشوفة عليها بين الجماهير «المؤمنة».
لكن الفكر السياسي العربي ليس جزيرة معزولة عن تيارات الفكر السياسي العالمي. فما نعنيه هو، فقط، ضرورة الانتباه للتساوق بين المصطلح وتاريخه. لقد هبت علينا، كما في قول بشير أبرير، بعض المفاهيم والمصطلحات من المناخات الفكرية لعصر «الحداثة» الأوروبي، بتاريخيته الخاصة، وأشراطه المحددة، فتلقيناها بمختلف خطاباتنا، دون أن يكون في ثقافاتنا مهد ملائم لها، ودون أن تعاني مجتمعاتنا المخاض المباشر لإنتاجها، فشكلت لدينا مصدر اختلاف إلى حد التصادم.
يلزمنا أيضاً التفريق بين ما نرمي إليه والمحاولات التي قد نصادفها، أحياناً، لإيجاد مفاهيم ومصطلحات عربية بديلة للمفاهيم والمصطلحات الغربية، ما يفتقر إلى التسويغ المعرفي، ويعزلنا عن الحياة من حولنا، ويهدر السياق التاريخي لتلك المفاهيم والمصطلحات، ويقوم بعملية معاوضة وهمية تهدف إلى تبرير نزعة الاستغناء عن الآخر، والتخلي الطوعي عن منجزات العلم الحديث، والثقافة الإنسانية، ومواجهة التحدي الغربي بالتراجع والانحسار على المستوى الحضاري، وبوهم القوة والحماس على المستوى الواقعي؛ حيث تفتقر هذه الرؤية الخاطئة للغرب، بالمطلق، إلى المنظور التحليلي النقدي، تماماً كالرؤية الخاطئة الأخرى التي تدعو، بالمقابل، إلى التبني شبه التام لكل ما هو غربي!
ليس ثمة أي مناص، إذن، من المراجعة، وسك المصطلحات والمفاهيم الجديدة، وإعادة انتخاب ما قد يصلح من المصطلحات والمفاهيم القديمة لتوصيف أحوال مجتمعاتنا، وتحليلها، دون الانغلاق على «خصوصية» تضخم الذات وتعزلها، أو التسليم ب «مركزية» تعلي من نهج فكري واحد للتطور!
kgizouli@gmail.com