كبار المسؤولين زمان وفى عالمنا الآن
محمد أبو الغار
سألتنى منى ابنتى هل أنت فعلًا لم تكن تعرف صلاح عبدالصبور واتصلت به تليفونيًا وببساطة رحب أنك تزوره فى بيته ومعك خمسة من الطلبة الذين يكتبون الشعر؟.. فقلت لها لم تكن هناك أى مشكلة. صحيح كان هو مسؤولًا كبيرًا فى وزارة الثقافة ورئيس أهم هيئة وكان شاعرًا مرموقًا، وأنا كنت مدرسًا شابًا بالجامعة، ولكن الأمر كان سهلًا وبسيطًا واستقبلنا بترحاب.
أحكى لكم عن لويس عوض، فى كتابه يقول إنه كان طالبًا فقيرًا من قرية فى المنيا، وكان له عدد كبير من «الإخوات»، وكان أبوه موظفًا بسيطًا يتقاضى مرتبًا ضئيلًا، وحين أنهى الدراسة الثانوية لم يكن هناك مكتب التنسيق، فتقدم مباشرة لكلية الآداب جامعة القاهرة، وذهب إلى مسجل الكلية بعد تقديم الأوراق، وسأله عن المجانية وطلب مقابلة العميد طه حسين، فأخبره المسجل بأن الجميع فى عطلة الصيف، فأخذ عنوان طه حسين فى مصر الجديدة، قبل أن ينتقل إلى الهرم.
يصف لويس عوض ملابسه وكانت بنطلونًا عليه بقع كثيرة من الزيت وقميصًا غير مكوى وحالته سيئة، ووصل يوم الجمعة صباحًا إلى فيلا طه حسين، ودق جرس الباب ففتحته السيدة سوزان، زوجه طه حسين، لأن السفرجى كان إجازة يوم الجمعة، وطلب منها مقابلة الدكتور طه فأدخلته إلى حجرة المكتب وسألته عن اسمه.
يصف لويس عوض ذهوله من أعداد الكتب المجلدة تجليدًا فاخرًا ومرصصة من الأرض للسقف على جميع الحوائط. ودخل طه حسين مرتديًا الروب فوق البيجاما.
طه حسين: أهلًا وسهلًا. إنت بتشتغل إيه؟
لويس عوض: أنا طالب فى كلية الآداب.
طه حسين: فى سنة كام؟
لويس: سوف أدخل أولى فى أول العام الدراسى.
طه: ما هى طلباتك؟
لويس: أنا عاوز مجانية.
طه: أنا ليس لى علاقة بالمجانية، هناك لجنة ووضعت قواعد دقيقة للمجانية، ولا توجد توصيات ولا وساطة فى هذا الأمر. إنما أخبرنى عن حالتك الاجتماعية وأنا ربما أعطيك تصورًا عن فرصك فى الحصول على المجانية. حكى لويس عن وضعه الاجتماعى، فقال طه حسين: فى الأغلب سوف تعطيك اللجنة نصف مجانية. ودخلت سوزان بالشاى فشربه لويس عوض وخرج متجهًا إلى المنيا. أتساءل هل يمكن الآن أن يزور أستاذ فى الجامعة العميد فى بيته من غير ميعاد أو سابق معرفة يوم الجمعة صباحًا دون أن يتم طرده؟ فما بالك بطالب لم يدخل سنة أولى بعد؟. حين كنت مدرسًا كنت أذهب للعميد فى مكتبه لأمور متعلقة بالأنشطة الطلابية، وكان الأمر بسيطًا إن لم يكن هناك اجتماع فتقابله مباشرة. أعتقد أن الأمور الآن أكثر صعوبة فبعض العمداء يعتبرون أنفسهم حاجة خطيرة، وينظرون إلى أعضاء هيئة التدريس من فوق، فما بالك بالطلاب والعاملين!.
والدى تخرج فى مدرسة التجارة العليا عام 1931 وذلك قبل أن تسمى كلية التجارة فى جامعة القاهرة، وكان عدد الدفعة 32 خريجًا، وكانت هناك أزمة اقتصادية عالمية عنيفة بعد انهيار بورصة نيويورك، فلم يكن هناك وظائف متاحة، فذهبوا إلى رئيس نادى التجارة (بمثابة نقابة للتجاريين قبل إنشائها) الذى اتصل برئيس الوزراء (صدقى باشا الديكتاتور المرعب الذى أسقط الدستور وأعلن الرقابة على الصحف)، فطلب الاجتماع بالدفعة كلها فى وزارة المالية مساء، لأنه أيضًا كان وزيرًا للمالية، وذلك حتى يكون الجو هادئًا واجتمع معهم، واتفق أن يتولوا العمل جميعًا فى فروع بنك أنشئ حديثًا ويختاروا الأماكن، حسب ترتيب التخرج. هل يمكن فى زمننا الحالى أن يتصل ببساطة أحد برئيس الوزراء الذى يقرر الاجتماع مع شباب صغير ويقوم بحل المشكلة؟.
المناصب العليا الآن أصبح من يتبوؤها يعتقد أنه فى برج عال. بالطبع لا ينطبق ذلك على الجميع، فقد قرأت وسمعت عن محافظ دمياط وهى سيدة تقابل الجميع وتتحدث مع الكل ولا تتعالى على أحد، وتؤدى أيضًا عملها بكفاءة. كان الوزير والمحافظ يخشى الشعب وغضب الناس ويخاف من الصحافة وربما من استجواب فى مجلس النواب. الآن الوضع مختلف، أهم شىء أن تكون القيادة العليا راضية عن عمله، وأن تكون التقارير الأمنية جيدة عنه، أما الناس العادية، التى هى الأغلبية العظمى من الشعب، فكثير من المسؤولين لا يهتمون بأمرهم طالما لا توجد هناك دوشة تزعج المسؤولين الأكبر.
أعتقد أن المسؤول يجب أن يكون بسيطًا ومتواضعًا، وكما يهتم بإرضاء القيادة العليا عليه إرضاء القاعدة الكبير من الشعب مادام ذلك فى حدود القانون والقواعد التى وضعتها الدولة.
لا بد من إيجاد طريقة منظمة وقانونية تجبر الوزير والمحافظ ورئيس الجامعة والعميد ومن يماثلهم على أن يتعاملوا مع مرؤوسيهم ومع العامة بطريقة مهذبة ويستمعوا لآرائهم ويشرحوا بعض القرارات، التى قد تبدو غريبة، ويناقشوا الناس فيها.
الصحافة الحرة والصحافة الاستقصائية عليها دور رقابى هام، بحيث توصل إلى القيادة العليا مشاكل بعض القيادات. ومن المعروف أن استمرار القيادة فى مكانها مدة طويلة يدعم الضعف الطبيعى للإنسان ويساعد على نشر الفساد فى بعض معاونيه.
التواضع صفة يعطيها الله للإنسان، والغرور والشعور بالقوة صفة ينميها تولى منصب مهم، وذلك هو سبب تكالب الناس على هذه المناصب والبعض يبذل كل جهد للحصول على منصب، وعندما لا يحصل عليه أو تنتهى مدته فى هذا العمل أو تتم إقالته يحزن حزنًا شديدًا ويعتقد أن هذه هى نهاية العالم بعد أن يرى المجموعة التى كانت بجواره قد انفضت من حوله، ولا أحد يسأل عنه أو يكلمه وتتوقف المعايدات السنوية. أما المسؤول الكبير المتواضع الأمين الذى يراعى كرامة من يعمل معه وكرامة الناس جميعًا فحين تنتهى مدة الوظيفة يجد نفسه سعيدًا ومحبوبًا وراضيًا بحب الناس له وتبقى ذكراه عطرة.
قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك.
نقلاً عن “المصري اليوم”