كبرياء صاحب بستان عائشة
يوسف أبو لوز
أقام الشاعر عبد الوهاب البياتي (١٩٢٦-١٩٩٩) في أكثر من بلد عربي وأجنبي: الأردن، لبنان، مصر، بريطانيا، روسيا، إسبانيا، إلى أن أخذته أخيراً طوافاته التي تشبه طوافات المتصوّف الكبير محيي الدين بن عربي إلى دمشق، وفيها أغمض عينيه على قمر شيراز إلى الأبد وهو جالس على كرسي، وسوف تكون رقدته الأخيرة إلى جوار قبر «الشيخ الأكبر» أو «الكبريت الأحمر» كما أوصى.
قد يكون «أبو علي»، الذي ينحدر= كما تذكر بعض المصادر= من أصول تركمانية، عاش في بلدانه تلك، ولا أريد القول «منافيه» أكثر مما عاش في العراق، وفي الأردن محطته ما قبل الأخيرة في طريقه إلى دمشق، عاش صاحب «بستان عائشة» كما يليق بشاعر يحترم نفسه ويحترم تجربته الشعرية التي كان لها أثرها في عدد قليل من الشعراء العرب ولكنهم يحملون روح هذا الشاعر الذي جعل من ثيمة المنفى ركيزة أساسية في شعره المختلف تماماً عن أي شعر لأبناء جيله الريادي: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وبلند الحيدري.. لا بل تختلف قصيدة صاحب «ملائكة وشياطين» التي صدرت في العام 1950 عن أي خطاب شعري لأقرانه من العرب: صلاح عبد الصبور، علي الجندي، أحمد عبد المعطي حجازي، وغيرهم من شعراء الستينات والسبعينات حيث آنذاك صعدت قصيد ة التفعيلة، وباتت الاسم العلني العريض للشعر العربي.
في العاصمة الأردنية عمّان كان «أبو علي» يأتي مساءً أو قبيل غروب الشمس إلى مقهى في شارع وصفي التل غربي عمّان واسمه «الياسمين» وكانت عمّان في التسعينات، وتحديداً في وسط التسعينات ملاذاً لعشرات الكتّاب والشعراء والفنانين العراقيين الذين كان أكثرهم يبحثون عما هو أبعد من عمّان:.. الهجرة إلى دولة أوروبية والحصول على لجوء سياسي أو اجتماعي، وبالتالي، العيش في شيء من الكرامة المفتقدة.
لم يكن البياتي من هذا النوع من الشعراء العراقيين وغير العراقيين.. لم يبتذل نفسه أمام سفارة أوروبية أو أمام سفير غربي.. إنجليزي أو فرنسي أو أمريكي، وعاش في عمّان بكرامة شخصية وبكرامة الشعر معتمداً على وقع اسمه واحترام هذا الاسم في الوسط الثقافي العربي.
بعض الشعراء العراقيين، وأشدد على كلمة «بعض».. تاجر بالأسطوانة المشروخة «المعارضة»، واستغل ذاته العراقية بوصفها ذاتاً مقموعة سياسياً، كما يطيب لهؤلاء دوران الأسطوانة. كما أن هذا «البعض».. استطاب «خيرات» المنفى: مقاهي الرصيف وحياة الرصيف، ومن الخيرات جواز السفر والجنسية والإقامة.. والحانات العابقة ببخور الكحول.
عبد الوهاب البياتي ليس من هؤلاء مطلقاً.. رجل نبيل.. مملوء أبداً بكبرياء الشعر.
yabolouz@gmail.com