كوريا الشمالية..إنهاء الصدام النووي
تأليف:غلين فورد
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
على الرغم من محاولات استئناف «المفاوضات»، يبدو أن مواقف بيونج يانج والغرب لا تتغير. فلا يزال الغموض يكتنف تحركات الشماليين، ولا توجد خطط واضحة للمستقبل. هل يمكن الثقة في أي من الجانبين لإحلال السلام؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف؟. يحقّق غلين فورد في عمله هذا في نظام بيونج يانج من الداخل، ويقدّم رؤى متغيرة للعبة التي فشل ترامب وإدارته في القيام بها، ويبين أن كوريا الشمالية دولة شديدة القمع، لكن في المقابل هناك قسم من القيادة يحاول مواكبة الحداثة، ولكنه يعجز عن إنهاء العزلة المفروضة على بيونج يانج.
كانت كوريا الشمالية «دولة مثيرة للقلق» لما يقرب من 70 عاماً. ومنذ هجمات 11 سبتمبر 2001 وما تلاها من «الحرب على الإرهاب»، اتخذت السياسة الخارجية الأمريكية تحركاً من جانب واحد. وأصبحت كوريا الشمالية ثلث «محور الشر»، و«دولة مارقة»، و«بؤرة استبدادية»، ووصفتها إدارة بوش بأنها خطر واضح وشامل على السلام العالمي.
على الرغم من أن آخر عمل تفجيري لكوريا الشمالية كان في ثمانينات القرن الماضي، إلا أن الولايات المتحدة واصلت تصنيفها كدولة راعية للإرهاب حتى عام 2008. وذلك لمحاولة اغتيال الرئيس السابق لكوريا الجنوبية تشون دو هوان في أكتوبر 1983، حيث قام عملاء كوريا الشمالية بزرع قنبلة في النصب التذكاري للشهداء في رانغون، بورما، خلفت 21 قتيلاً، من بينهم أربعة وزراء في جمهورية كوريا. نجا تشون حينها. لكن أثار الهجوم إدانة عالمية ومظاهرات جماهيرية في كوريا الجنوبية. وعلى الرغم من أن تشون كان قد استولى على السلطة في انقلاب عسكري في عام 1979، وكان مسؤولاً عن مقتل ما يصل إلى ألفي متظاهر في مذبحة غوانغجو عام 1980، إلا أن سكان كوريا الجنوبية لم يرغبوا في إقالته من قبل بيونج يانج.
وسبـــب آخــــر مــــن بـــــين أٍسباب عديدة، كـان في عام 1987، حينما انفجرت طائرة كورية جنوبية متجـهة إلــــى بانكوك فوق بحر أندامان، مما أسفر عن مقتل جميع الركاب وعددهم 115 شخصاً. كان الهجوم مصمماً لعرقلة الاستعدادات لأولمبياد سيؤول. عندما تم اعتقال اثنين من عملاء كوريا الشمالية في البحرين، حاول كلاهما الانتحار باستخدام كبسولات السيانيد. توفي أحدهما، لكن الثانية نجت. تحت التحقيق في سيؤول، اعترفت بتورط كيم جونغ ايل. وخُففت عقوبة الإعدام الصادرة بحقها.
مع تناول التطورات الأخيرة بما في ذلك قمة ترامب/كيم، يدعم فورد حواراً بين الشرق والغرب، في حين ينتقد أيضاً محاولات ترامب السطحية. وفي رأيه، يوفر الحديث مع كوريا الشمالية خريطة طريق لتفادي خطر الحرب الذي يلوح في الأفق في شمال شرق آسيا والذي من شأنه أن يهدد حياة الملايين.
يأتي الكتاب في 320 صفحة صادر عن دار «بلوتو بريس» للنشر، ويتوزع إلى ثلاثة أجزاء مقسمة على سبعة فصول بعد مقدمة بعنوان: مفارقة بيونج يانج. «الجزء الأول: جذور الأزمة الحالية: فهم تاريخ كوريا الشمالية»: 1) رسم الستار الحديدي. 2) كوريا في عهد كيم. 3) المجاعة والأسواق واللاجئين وحقوق الإنسان. «الجزء الثاني: كيم جونج أون: الاستمرارية والتغيير»: 4) التنمية الاقتصادية، الرادع النووي. 5) الحياة اليومية في كوريا الشمالية. «الجزء الثالث: المرحلة الدبلوماسية» 6) العامل النووي. 7) الشؤون الخارجية بين التقارب والمواجهة. الخلاصة: بعد قمة سنغافورة.
مفارقة بيونج يانج
في مقدمته: «مفارقة بيونج يانج» يقول الكاتب: بيونج يانج عالقة في مفارقة. وإن التدابير ذاتها التي شعرت أنها ضرورية لضمان بقائها على المدى الطويل هي بالتحديد تلك التي تضعها في خطر قصير الأمد. فخط بيونغجين لكيم جونغ أون – الذي أعطى ثقلاً متساوياً لبناء الردع النووي وتطوير الاقتصاد – صُمم لتوفير الأمن والوقت والمكان للسماح للاقتصاد بالنمو. ومع ذلك، يهدد الشريط النووي في السياسة بالتسبب في ضربة «وقائية» من قبل واشنطن و«تحالف الراغبين»، مما أدى إلى نشوب حرب كورية ثانية، مع عواقب مدمرة.
من وجهة نظر بيونج يانج، فإن أفعالها هي نتيجة طبيعية حتمية لهذا النضال من أجل البقاء. هنا تتضح الاستكشافات السياسية لكوريا الشمالية: الطبقة الإقطاعية الأساسية التي تسيطر عليها دروس عميقة تلقتها من الاستعمار الياباني (اليابان احتلت كوريا من 1910 إلى 1945)، ثم التقسيم اللامبالي الذي فرضته الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. تبع كل ذلك النصر الأولي في حرب أهلية، وتحولت إلى صراع حضارات بديل انتهى بمأزق دام نصف قرن، قبل أن يتعرض لخطر دفنه تحت أنقاض إمبراطورية سوفييتية منهارة. السلوك الأخير لكوريا الشمالية هو صرخة حرب أقل مما هي صرخة طلب النجدة.
ويتحدث الكاتب عن بداية زياراته إلى كوريا الشمالية واهتمامه بها قائلاً: «قمت أولاً بزيارة كوريا الشمالية في عام 1997، خلال أحلك أيامها منذ الحرب، فـــي ذروة المجاعة. لقد عدت أكثر من خمسين مرة منذ ذلك الحين، تحت مجموعة متنوعة مــن المظاهــر. لقـــد خدمت في سلسلة من الوفود المخصصة التي أرسلها البرلمان الأوروبي بعد زيارتي في عام 1997، وفي عام 2004 اقترحت بنجاح إنشاء وفد دائم مع شبه الجزيرة الكورية لا يزال قائماً. في وقت مبكر من رحلتي أصبح واضحاً أين تكمن السلطة في بيونج يانج. كما هو الحال في الصين، كان الحزب، وليس الوزارات، هو الذي يصنع بصمته. وهكذا كانت غالبية زياراتي تحت رعاية الإدارة الدولية لحزب العمال الكوري.
خمس خرافات
يشير الكاتب إلى أن الشمال غارق في التاريخ وما قبله، ويقول:«بالنسبة لهم، التاريخ مهم. إنهم يتلقون منذ الولادة رواية وطنية تصوغ فهمهم للعالم وخصومه. على عكس الغرب، حيث «الرؤية» تعني التفكير خارج الدورة الانتخابية المقبلة، فإن الكوريين الشماليين يفكرون على المدى الطويل. الماضي هو مفتاح الحاضر. وبالتالي فإن أي محاولة لفهم جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية تحتاج إلى رؤية على الأقل لتلقي نظرة خاطفة على الواقع من خلال عيونهم. ويشير الكاتب إلى أن هناك أكبر خمس خرافات حول كوريا الديمقراطية الشعبية هي:
(1) إنها دولة ستالينية تدار على أساس الماركسية اللينينية. لا، إنها أوتوقراطية ذات خصائص شيوعية، تعاليمها قائمة على نظرية زوتشيه التي تبناها رئيس كوريا الشمالية كيم إل سونج، وكيم جونغ إل.
(2) تشبه بكين وبيونج يانج «الشفاه والأسنان». لا، النظام لا يثق بالصين ويستاء بشدة منها. على مدى العقد الماضي بالكاد جرت بينهما محادثات. بيونج يانج مستعدة للقتال إذا لزم الأمر.
(3) بيونج يانج تريد توحيداً مبكراً. لا، إن قيادة كوريا الشمالية تدرك تمام الإدراك أنه مع بلوغ ناتجها المحلي الإجمالي بالكاد أكثر من 2 في المائة من الجنوب، فإن التوحيد المبكر لن يتم إلا عن طريق استيعاب اسم آخر.
(4) إنه اقتصاد موجه. لا، بسبب المجاعة في أواخر التسعينات من القرن الماضي أصبح الاقتصاد بشكل متزايد اقتصاد سوق مشوهاً.
(5) رفع العقوبات الأمريكية هو المفتاح. لا، لم تصدّر كوريا الشمالية قط أي بضائع أو تستورد من الولايات المتحدة. ما يريدونه من واشنطن هو ضمانات أمنية قوية بما فيه الكفاية لتحريرهم من اتخاذ الطريق لنزع السلاح النووي والسماح للصين وكوريا الجنوبية برفع العقوبات.
فترة من الاضطراب
كــــان القــرن العشرون فـــــي كوريـا الشماليــة مضطرباً، كما يوضح تفاصيله الكاتب في الفصل الثاني. ويقول الكاتب بعد الاحتلال اليابانــي والتقسيم السوفييتي والأمريكي: «لا الشمال ولا الجنوب كان يكتفي بالنصف. كلاهما يريد الكل. سعت سيؤول للتوحيد الوطني وبيونج يانج سعت إلى التحرير الوطني. كانت النتيجة الحرب الأهلية (1950-1953) التي تحولت إلى صراع بديل بين القوتين العظميين في العالم، وحملة صليبية ضد الشيوعية من قبل الولايات المتحدة في احتضان المكارثية. بعد انتهاء الحرب الكورية، واصلت كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية إرسال المخبرين والجواسيس والإرهابيين عبر المنطقة المنزوعة السلاح للتسلل، ولكن في ظل غياب شركاء الحرب الباردة كانا يشكلان تهديداً كبيراً فقط لبعضهما البعض.
لم يكن لدى كوريا الشمالية تاريــخ ديمقراطـــي للعودة إليه، وتم بناء بنيتها السياسية وفقا لنموذج»ديمقراطية الشعــب«المستخــــدم عبــــــر الإمبراطوريــــة السوفييتـــــية. بعد رفض واستنكار رئيس الوزراء السوفييتي نيكيتا خروتشوف الستالينية في عام 1956، تعرض كيم إل سونج للتهديد للمرة الأولى منذ نهاية الحرب. وكان رده في البداية، فقد قام بتطهير الحزب من أولئك الذين يهددونه، وأصبح هو وزملاؤه من الجنرالات المتحزبين يعملون على تحويل تركيز البلاد من الستالينية إلى القومية الأوتوقراطية مع اللجوء إلى إيديولوجية زوتشيه (الاعتماد على الذات). بشكل حاسم، كما أشار تشارلز أرمسترونج في عمله»ثورة كوريا الشمالية 1945-1950«(2003)، قام كيم بدمج الاشتراكية السوفييتية مع التقاليد والثقافة الكوريتين الأصليتين لخلق عقيدة الدولة التي تجاوزت كل توقعات الغرب.وتوعدت كلّ من موسكو وبكين بيونج يانج في وقت واحد، كما ازدهر اقتصاد ما بعد الحرب، مع أساسه القائم على الصناعة الثقيلة. كانت كوريا الشمالية بمثابة»الصبي المثالي«للشيوعية العالمية. ولكن في أواخر الستينات، بدأ المحرك الاقتصادي يتعثر، حيث لم يتحقق التحول الموعود من الصناعات الثقيلة إلى الخفيفة، كما أن زيادة تسليم السلع الاستهلاكية لم يحقق نجاحاً. اقترض كيم مليارات الدولارات من الغرب في أوائل السبعينات، لكن المشاريع الجاهزة التي اشتراها فشلت مع أزمة النفط عام 1973 التي أصابت الاقتصاد العالمي بالركود. خلال الثمانينات من القرن الماضي، انخفض تصنيفها إلى المرتبة الرابعة والثلاثين على مستوى العالم. مع انهيار الاتحاد السوفييتي، انتقلت من سيىء إلى أسوأ. وتوقفت المساعدات من موسكو وأصبحت المساعدات من بكين بطيئة.
وبسبب التخلي عنها، أصبحت كوريا الشمالية تتطلع إلى تطوير رادع نووي خاص بها، لكن الاقتصاد تحول إلى حالة من الضعف، وأصبح السكان يعانون من الجوع. مات الملايين. هكذا فعل كيم. بالنسبة لكيم كان شكلاً من علم الأحياء، ولكـــن البقية كانوا ضحايا السياسات الفاشلـة والكــوارث الطبيـعية. وأصبحـــوا ضحايــــا مجهولين لأسوأ مأساة إنسانية في الربع الأخير من القرن العشرين. لقد عرفت واشنطن بكل ذلك، لكن لم يكن هناك من هــو متحمس لوضع محنتهم على شاشات التلفزة العالمية. جاعوا ببطء، وفي صمت«كما يقول الكاتب.
التوجه نحو الإصلاحات
بعد توقف دام ثلاث سنوات، أبقى كيم على قضية عدم ثقة والده الفطرية بالإصلاح، لكنه اضطر إلى الاعتراف بأن بقاءه يعتمد على تحريك الاقتصاد الراكد. في حين أن إصلاحاته كانت جزئية فقط، ولم تنجح دائماً، لكن وضعت الأساس وقدمت شرعية لتغييرات أوسع بعد عام 2010.
تعتقد قيادة كوريا الشمالية أنه على الرغم من استمرار العداء الأمريكي، فإن بقاء النظام يتطلب نمواً اقتصادياً ومظلة نووية مستقلة. ومع ذلك، فإن جهودهم يعوقها التناقض المتبادل بين هذه الأهداف: الأول يحول دون تحقيق الهدف الثاني. لكن الدفاع النووي له دوافع أخرى. فالنمو الصناعي والاقتصادي يتطلب قوة عاملة. على عكس الصين، لا يوجد تجمع كبير من العمال الفلاحين في انتظار العمل في المصانع. بدلاً من ذلك، تم احتجاز العمال في جيش بيونج يانج المليوني. هذا الجيش الاحتياطي من العمال يحتاج إلى تسريح. ويرى الكاتب أن» تقليص حجم الطاقة النووية والانتقال منها هو علامة على الضعف وليس القوة».
ومع ذلك، فإن كل هذا أصبح موضع نقاش بسبب الحظر الاقتصادي. لقد كثف كيم جونج أون من الإصلاحات الاقتصادية والتطورات العسكرية التي قام بها والده. وفي وقت مبكر من عام 2013، وبمجرد التأكد من سلطته، تبنى الحزب خط بيونجين لتطوير الاقتصاد والردع النووي في وقت واحد. في ظل كيم جونج ايل، بدأ الاقتصاد في الانفتاح ببطء وبدأت أول التجارب النووية، لكن كيم جونج أون دفع أكثر وأسرع في هذا السياق. كانت الرحلة صعبة، لكن الوصول إلى القمة ربما جعل الأمر يستحق العناء. والسؤال الآن هو ما إذا كان بإمكانه مقايضة الرادع النووي المكتمل للتوصل إلى اتفاق سلام وضمانات أمنية، ورفع العقوبات، وحزمة تنمية اقتصادية.
خيارات محدودة
ترى واشنطن كوريا الشمالية كدولة شيوعية غير متطورة ومدينة لبكين، بقيادة مستهتر غير عقلاني، وبالتالي كدولة منبوذة خطرة غير مقبولة للضغط السياسي الطبيعي القائم على السبب والنتيجة. غير أن الأمر الأكثر دقة هو رؤية جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية – كما تفضّل أن تعرف بها – على أنها مقيدة في وضع تكون فيه خياراتها محدودة. فمع وجود اقتصاد صناعي فاشل بدلاً من اقتصاد ناشئ، لدى نظامها الحاكم أسباب مشروعة لعدم الثقة بالعالم الخارجي، ويريد أن يضمن بقاءه في مواجهة تهديدات وجودية واضحة.