كيف تصنع الهند مكانتها في العالم؟
تأليف:أليسا آيرس
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
تتبع الهند سياسة التروي والصبر في سياستها الداخلية والخارجية، ولا تزال تعتمد على إرثها الكبير في سياسة عدم الانحياز، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى. اليوم، تركز هذه الدولة العملاقة على تعزيز نموها، وتأسيس مكانة عالمية تتناسب وإمكاناتها الصاعدة. تناقش الكاتبة أليس آيرس هذه السياقات ضمن النظام العالمي المقبل وعلاقة الهند مع الولايات المتحدة، وضرورة لجوء الطرف الأمريكي إلى تغيير سياساته مع الهند لبناء شراكة حقيقية قائمة على الاحترام المتبادل.
على مدى السنوات ال 25 الماضية، قفز النمو الاقتصادي الهائل في الهند إلى صفوف القوى الكبرى الناشئة في العالم، بعد أن عانى الشعب الهندي لفترة طويلة الفقر المدقع، حتى التسعينات من القرن الماضي، بسبب النظام الرقابي المرهق الذي حد من قدرة اقتصادهم على المنافسة على نطاق عالمي. منذ ذلك الحين، فتحت الحكومة الهندية تدريجياً الاقتصاد، فكانت النتائج مذهلة. لقد نمت الطبقة الوسطى في الهند بسرعة فائقة، ما يعني أن حجم البلاد الهائل، وعدد سكانها الضخم واقتصاداً يقدّر بتريليوني دولار، سيكون لها تأثير عالمي كبير سواء في التجارة العالمية وتغير المناخ والديمقراطية، وهي في كل هذه السياقات أصبحت دولة مهمة الآن، كما تقول مؤلفة الكتاب.
وترى أن الهند رغم وضوح مضيها على المسار الصحيح لتصبح قوة عظمى، فإنها لم تتخل عن كل سياساتها السابقة: فاستراتيجيتها لا تزال حمائية نسبياً، ولا تزال تناضل مع إرث مبادئ السياسة الخارجية منذ فترة طويلة القائمة على عدم الانحياز. وتقول: «تشمل ديمقراطية الهند النابضة بالحياة مجموعة كبيرة من الأحزاب التي تتبنى سياسات متباينة بشكل مذهل. ولا تتأثر الهند بسهولة بالنفوذ الأجنبي. وتحرص بعناية على استقلالها، ويعود ذلك جزئياً إلى ماضيها في ظل الاستعمار. لكل هذه الأسباب، تميل الهند إلى التحرك بحذر وتروٍ في المجال الدولي».
في هذا الكتاب، تنظر أليسا آيرس في كيفية تأثير التوتر بين ماضي الهند الذي ركز على الداخل واندماجها المستمر في الاقتصاد العالمي في مسارها. واليوم، يريد القادة الهنود على نحو متزايد أن يجدوا بلادهم في صفوف القوى العظمى في العالم، بل في الواقع، باعتبارها «قوة رائدة»، وفق كلمات رئيس الوزراء ناريندرا مودي.
تنظر آيريس في الدور الذي من المحتمل أن تلعبه الهند مع تنامي مكانتها، مقيّمة العواقب والفرص بالنسبة للولايات المتحدة والدول الأخرى، مع قيام أكبر ديمقراطية في العالم بتحديد مكانها في العالم. وتضيف الكاتبة معلقة: «الهند تكسر قالب «الحليف» النموذجي، كما أن اتساعها وتاريخها وتنوعها يجعلها لا تضاهى بأي قوة ديمقراطية كبرى أخرى». من خلال التركيز على الكيفية التي يصوغ بها منظور الهند الفريد نهجه في الشؤون العالمية، فإن الكاتبة من خلال هذا العمل تقدّم فهماً لمعنى نهوض الهند.
يأتي الكتاب في ثلاثة أجزاء تضم فصولاً وفق الترتيب التالي: (الجزء الأول: التطلع إلى الخلف)، تمهيد، الفصل الأول: مقدمة. الثاني: الهند والعالم. الثالث: الانفتاح على العالم. (الجزء الثاني: الانتقال). الرابع: البحث عن مكان الهند الصحيح. الخامس: قوة حذرة. (الجزء الثالث: التطلع إلى المستقبل). السادس: الدور العالمي المتغير للهند. السابع: مستقبل اقتصادي متغير؟ الثامن: كيف يجب على الولايات المتحدة العمل مع الهند الصاعدة. الخاتمة. ملاحظة ببليوغرافية. قائمة المراجع.
الديمقراطية الهندية
تقول الكاتبة في بداية عملها: في الانتخابات الوطنية الهندية في عام 2014، ألقى المواطنون أكثر من نصف مليار بطاقة اقتراع في أكثر من 900 ألف مركز اقتراع؛ وهو عمل مثير للإلهام للامتياز الديموقراطي. وكانت تقارير تفيد أنه لإعجابه بحجم الديمقراطية الهندية، دفع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش إلى إعطاء الأولوية لتعميق العلاقات. ومثل الأمريكيين، يفتخر المواطنون الهنود بديمقراطيتهم التي كان المرء يعتبرها في السنوات الأولى من استقلال الهند أمراً غير محتمل؛ نظراً للفقر والأمية الهائلين في البلاد. كل عملية انتخاب تعمل على توطيد رؤية مؤسسي الهند واعتقادهم في الحق العالمي بالتصويت، رغم كل الظروف.
وتتوقف عند رأي الأمريكيين بهذه الديمقراطية الهائلة قائلة: «لكن الأمريكيين في بعض الأحيان يتوقعون – عن طريق الخطأ – أن يروا أفكارهم الخاصة عن تعزيز الديمقراطية والمصلحة في تأييد النظام الليبرالي العالمي الذي تعكسه الهند، متنبئين بأن كلا البلدين يجدان أنظمتهما السياسية وتقاليدهما بالطريقة نفسها. يمكن أن يؤدي هذا الخطأ في التقدير إلى الارتباك وخيبة الأمل. الهند تقف ضدّ التدخلات الملموسة في سيادتها، وهذا نابع من تجربتها الاستعمارية. أصبح عدم التدخل مبدأ أساسياً، حينما عمل نهرو على تثبيته دولياً من خلال حركة عدم الانحياز. تنظر الهند إلى المقاربات النشطة فيما يتعلق بتعزيز الديمقراطية – إن لم يكن بناء على طلب صريح من البلد المضيف – كتدخل في السيادة.
إذا كانت حدود التعاون في مجال تعزيز الديمقراطية في البلدان الأخرى تنبع من مخاوف السيادة الهندية، فإن هذه المخاوف تصبح أكثر وضوحاً عندما يتعلق الأمر بالعديد من المعايير الديمقراطية الليبرالية التي توليها السياسة الخارجية الأمريكية اهتماماً خاصاً بالتأييد في جميع أنحاء العالم: حرية التعبير، والحرية الدينية، وفضاء المجتمع المدني، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، ودعم تمكين المرأة، وغيرها الكثير. تنبع هذه التأكيدات من التركيز الأمريكي على حقوق الإنسان العالمية، والاعتقاد بأن أدوات السياسة الأمريكية يمكن ويجب أن تحدث فرقاً إيجابياً حول العالم كما تقول الكاتبة.
وترى أن التركيز الأمريكي على حقوق الإنسان يؤدي وظيفة رمزية «للقيم والمبادئ التي تقف عليها الولايات المتحدة». هذه المخاوف متضمنة في صياغة السياسة الخارجية للولايات المتحدة في السلطة التنفيذية، وفي إشراف الكونجرس على الإدارة.
احترام الشؤون الداخلية للدول
في الواقع، يطلب الكونجرس الأمريكي – كأمر قانوني – تقارير سنوية من وزارة الخارجية حول حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، والاتجار بالأشخاص، والحرية الدينية. كما يطلب من وزارة العمل الأمريكية تقريراً مفصلاً عن عمالة الأطفال في جميع أنحاء العالم.
تعلق الكاتبة: بالنسبة للحكومة الهندية، فهذه مسائل تتعلق بالاختصاص القضائي المحلي. وتحضر إلى أذهانهم مسائل المسّ بالسيادة الوطنية. إن الدستور الهندي يكرس حقوق الإنسان، والمساواة بين المرأة والرجل، وحرية الدين، والحماية من التمييز، وغير ذلك. لكن الحكومة الهندية ترى أن هذه القضايا هي أمور داخلية بحتة. ومع وجود استثناءات نادرة في الجوار، ترتبط عادة بمجموعة تصويت محلية، فإن الهند عموماً لا تؤيد حقوق الإنسان خارج حدودها. كما أنها لا تدعم عادة قرارات دولة واحدة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. قامت»هيومن رايتس ووتش«مؤخراً بتقييم سجل التصويت لدى الهند في مجلس حقوق الإنسان على أنه إحدى أقل الدول دعماً لتفويض المجلس بشأن التصدي للأوضاع في الدول. وهذا يتعلق بوكالة تابعة للأمم المتحدة كانت الهند عضواً فيها منذ إنشائها في عام 2007.
ترى الهند أن الولايات المتحدة، أو أي دولة أخرى، تفتقر إلى الشرعية لإصدار الحكم على الأوضاع داخل حدود البلدان الأخرى كما تذكر المؤلفة، موضحة أكثر: عند إصدار لجنة أمريكية بياناً عن الحرية الدينية الدولية، خرج بيان من وزارة الشؤون الخارجية في 2015 يعكس هذا المنظور بشكل جيد قائلاً: «نحن لا نأخذ في الاعتبار هذا التقرير».
وتضيف الكاتبة: في الوقت نفسه، توفر تجربة الهند التي تجري الانتخابات على أساس شبه ثابت إمكانات كبيرة لمزيد من الشراكة. فعلى الصعيد الدولي، تدافع الهند عن الديمقراطية، وتقف على أهبة الاستعداد لتقديم المشورة إذا طلب منها ذلك، وقد دعمت بقوة صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية ومجتمع الديمقراطيات. مع التركيز على هذا الواقع، يجب على الولايات المتحدة أن تتشارك مع الهند في بذل المزيد من الجهود في الجوانب الانتخابية للديمقراطية، والإبقاء على التركيز على العناصر الموجودة داخل منطقة الراحة الخاصة بنيودلهي.
العلاقة الأمريكية-الهندية
بحكم خبرتها في الهند وآسيا، ترى الكاتبة في نهاية كتابها أن العلاقة بين الولايات المتحدة والهند، بقيت راكدة لعقود خلال الحرب الباردة، واليوم مع ممارستها الديمقراطية تسعى الولايات المتحدة إلى الشراكة معها في القرن الواحد والعشرين، وهي تظهر بين القوى العظمى في العالم، وهذا بدوره سوف يظهر على الأرجح تغيراً في السياسة الأمريكية تجاهها.
تقول الكاتبة هنا: الولايات المتحدة فقدت الهند في القرن العشرين، واليوم ستسعى إليها في القرن الواحد والعشرين، حيث إن الهند دولة قوية ومؤثّرة في منطقة المحيط الهندي المتقلبة تقدّم نموذجاً للنجاح الاقتصادي والديمقراطي الذي يقف على خلاف النموذج الذي قدمته الصين، وهذا يخلق تحالفاً آسيوياً للقوة. الهند شريك «لا غنى عنه»، كما قال الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، حيث ستكون هناك روابط اقتصادية قوية معها، حتى وإن كان هناك بعض الخلافات القوية تطفو على السطح، كما سيكون هناك تعاون معها بشأن القضايا الحساسة في المحيط الهندي والقلاقل في منطقة آسيا-المحيط الهادي، وسيكون على الولايات المتحدة التشاور معها مراراً وتكراراً بشأن مسائل السلام والصراعات حول العالم، ومعها ستتطلع الولايات المتحدة نحو المستقبل في سبيل صياغته بشكل تعاوني.
وتضيف الكاتبة: من وجهة النظر هذه، هذا يشير إلى نظام عالمي سيكون للهند فيه حضور منتظم وواضح في مساعينا الاقتصادية العالمية، ودبلوماسيتنا، واعتباراتنا الأمنية والدفاعية. سوف تتوقع الهند من هذا النظام العالمي فهم خصائصها ومساهماتها، بينما تصوغ لنفسها سياقها الخاص بها وفق ممارسة القوة العالمية التي تستتبعها. إن التعامل مع صعود الهند، ورغبتها في إيجاد صوت لها في المؤسسات العالمية الكبرى التي تتفق بشكل أفضل مع دورها السياسي والاقتصادي الأكبر، سيتطلب في بعض الأحيان دبلوماسية قاسية. وهذا سيعني إدراك أن نيودلهي سوف تفضّل غالباً نهجاً حذراً على نحو أكثر بالنسبة لفتح السوق المحلية، وبالنسبة للاستجابة الدبلوماسية الملائمة للإحباطات الديمقراطية في العالم الثالث، واستخدام القوة على المستوى الدولي.
وتختتم عملها بالقول: ينبغي على الولايات المتحدة أن تتوقع أن قواعد اللعبة التي كانت تمارسها بالنسبة للعلاقات الثنائية سوف تتطلب تعديلات على كل مرة عندما يتعلق الأمر بالهند، إذ إن نيودلهي سوف تسعى إلى وضع شروطها الخاصة بها بدلاً من قبول النموذج الأمريكي الجاهز، وتوقيعه على بياض. وتقول: نيودلهي ليست مهتمة ب«نصيحتنا»، لكن في محادثة بين نظيرين، بشكل دقيق كما ترى نفسها، على الولايات المتحدة أن تبقي هذا الأمر في ذهنها، لتقوم بعمل أفضل يمهّد أمام جيلنا المقبل القدرة عل الفهم والعمل مع هذا البلد المعقد وهو يشق طريقه إلى القيادة، محققاً لنفسه مكانه الخاص به في العالم.
نبذة عن الكاتب
أليسا آيرس من أكبر الباحثين في مجلس العلاقات الخارجية في الهند وباكستان وجنوب آسيا. وهي تعمل في مجال السياسة الخارجية، ومؤلفة حائزة العديد من الجوائز، وتتمتع بخبرة كبيرة في القطاعات الحكومية وغير الربحية والخاصة.
عملت آيرس في السابق نائبة مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لجنوب آسيا من 2010 حتى 2013، حيث كانت تغطي منطقة ديناميكية تضم 1.3 مليار شخص (بنغلاديش، وبوتان، والهند، وجزر المالديف، ونيبال، وسريلانكا)، وقدمت توجيهات سياسية لأربع سفارات أمريكية وأربع قنصليات.
قبل أن تخدم في إدارة أوباما، كانت آيرس المديرة المؤسّسة لممارسات الهند وجنوب آسيا في شركة (مكلارتي أسوشيتش)، وهي الشركة الاستشارية الاستراتيجية الدولية التي اتخذت من واشنطن مقراً لها، في الفترة من 2008 إلى 2010. وقد عملت سابقاً في وزارة الخارجية الأمريكية كمساعدة خاصة لوكيل الوزارة للشؤون السياسية.
لها العديد من المؤلفات منها كتابها عن القومية والثقافة والسياسة في باكستان بعنوان»تحدث مثل دولة» نشرته مطبعة جامعة كامبردج في عام 2009. وحصلت على جائزة كتاب المعهد الأمريكي للدراسات الباكستانية 2011-2012. آيرس تتحدث الهندية والأوردية، وفي منتصف التسعينات عملت مترجمة في اللجنة الدولية للصليب الأحمر. حصلت على درجة البكالوريوس مع مرتبة الشرف من كلية هارفارد، ودرجة الماجستير والدكتوراه من جامعة شيكاغو بتقدير امتياز.