لغة إجراءات العمل
محمد سعيد القبيسي
خلال زيارتي لإحدى الدول الآسيوية، وفي أثناء تصفحي لمجلة سياحية هناك، أثارني إعلان عن نادي طيرانٍ بالقرب من الفندق، لهواة الطيران الشراعي، فتوجهت إليهم لاستئجار طائرة شراعية، والتمتع بالمناظر الطبيعية من السماء، وكإجراء احترازي قبل تأجير أي طائرة، قام أحد الطيارين، من الذين يعملون في هذا النادي، بالطيران معي؛ للتأكد من مقدرتي على قيادة الطائرة الشراعية، حيث تبيّن لي منذ الوهلة الأولى أن جميع الطيارين في هذا النادي يستخدمون لغة خاصة للتواصل فيما بينهم، ولا أقصد هنا لغة التخاطب؛ فمعظمهم من الأجانب، ويتحدثون الإنجليزية، ولكن ما قصدته هنا هو لغة التعامل فيما بينهم، فقد اعتمدوا لغةً خاصة بهم في الاسترشاد بالمواقع، أو تحديد مواقعهم بمعالم أرضية يعرفونها، لا بما هو متعارف عليه عالمياً ويعرفه الطيارون في هذا المجال بتحديد الموقع حسب الأرقام والمؤشرات الملاحية.
وعند سؤالي للطيار الذي معي عن هذه الطريقة، أجاب بأنها طريقة سهلة وغير معقدة، وأخبرني بأنني سأعتاد عليها مع الوقت.
الشاهد من هذه القصة هو التحدث عن اماكن العمل فهناك بعض الموظفين او المسؤولين في بعض الجهات الحكومية والخاصة، قد ابتكر لغة خاصة في التعامل أو في عملية سير الإجراءات الخاصة بالجهة التي يعملون فيها أو في إداراتها، لا يفهمها إلا هم فقط، وقد تكون ناتجة عن أمرين؛ إما عن المدة الطويلة التي قضَوها في المكان نفسه والتي جعلتهم يبتكرونها لتسهيل أعمالهم، وإما عن عدم درايتهم بالإجراءات الصحيحة أو المفترض أن يكون عليها سير العمل، وهنا يقع اللوم على الإدارات العليا التي لم تقم بإطلاع موظفيها على إجراءات سير العمل المطلوبة، أو تدريبهم ليكونوا على المستوى المناسب.
وقد تشكل هذه الحالة (متى وجدت) الكثير من المعوقات والمشاكل للبيئة الداخلية والخارجية لهذه الإدارة أو المؤسسة، إذ ستكون بيئة طاردة لأي موظف جديد عليها، لأنها ستتعارض مع ما يعرفه هذا الموظف الجديد، وخصوصاً إذا كان أحدَ الخريجين الجدد، ممن تلقى العلم على وفق أحدث الأسس.
أما عن تأثير ذلك على البيئة الخارجية فستكون هناك صعوبة في التوافق مع الجهات الأخرى، حتى لو كانت من الاختصاص نفسه، وأيضاً ستواجه الجهات الرقابية صعوبة لقياس أداء هذه الجهات أو رصد تجاوزاتها؛ لاختلاف معاييرها عن المعايير المتعارف عليها.
وهنا تكمن المشكلة اذ ان هذه الجهات اذ ماتطلب منها المشاركة في احدى الجوائز المحلية او تطبيق معايير الجودة لنيل شهادات دولية فانها لن تستطيع ذلك وستضظر الى الاستعانة بمؤسسات استشارية لمساعدتها في تعديل إجراءاتها الإدارية بما يتناسب مع المعايير المتعارف عليها وأفضل الممارسات مما سيكلفها الكثير من الجهد والوقت والتكلفة.
أما بعض من توسد وسادة (طنش تعش)، وظلَّ يعمل على طريقته، مدعياً بأنهم ليسوا بحاجة إلى هذه الجوائز والفوز بإحداها، وأنهم غير معنيين بتطبيق نظام الجودة، فسيبقى في عزلة عن الاخرين.
المسألة هنا ليست للتعميم، ولكنها موجهة إلى الفئة التي ذكرناها آنفاً، لأنهم بطريقتهم تلك خلقواحاجزاً بينهم وبين البيئة المحيطة بهم، وانفردوا ليعملوا وحدهم.
فإن كان العمل سابقاً يعتمد الإتقانُ فيه على الحِرَفية وإبداع اليدين، فإنه في عصرنا التكنولوجي هذا، عصرِ التقانة والتقدمِ المذهل، بدأ ينحو منحى آخر، وأخذت تتبدل القيم والمفاهيم، لِيَغدوَ مَن لم يُتقن العمل على آخر ما توصل إليه العلم، أمياً بحاجة إلى دورات وتدريب لمحو أميته هذه.
إن مؤسسات العمل العصرية التي تتطلع إلى أن تحقق لذاتها كياناً مرموقاً وسط الزحام العالمي، لا بد لها أن تساير التطور، وأن تتآلف مع مقتضياته، وأن تخترق حجب الرتابة، ومن باب أولى أن تزيح عنها تلك الفكرة؛ من اعتماد لغة أو إجراءات معينة خاصة بها؛ وان تنفتح على العالم وتعتمد الاجراءات المبنية على افضل الممارسات، ونبذ التقوقع هو احد مفايح النجاح والتقدم.
وأخيراً؛ لغة العمل والإجراءات الإدارية لا بد أن تكون لغة يفهمها الجميع، وليست مقتصرة على مبتكريها فقط.