مقالات عامة

لوعة الملل

محمد عبدالله البريكي

الضجر والسأم والملل مفردات كلها تدور في فلك الشاعر ومدارات القصيدة، وهي تعبر عن الحالة التي يعيشها الشاعر وتتغذى عليها الفكرة وتنمو من خلالها شجرة الشعر، فمتى يكتب الشاعر؟، والإجابة لن تكون عسيرة، فقد يحدث الميلاد المباغت للقصيدة عندما يخترم الشاعر الهم وتأكله رطوبة الحياة فيتمدد كسلك شائك في الوحدة والعذاب.
إن تفصيلات الضجر هي المعول الذي يضرب به الشاعر حجر القصيدة فتتولد شرارة الحروف وتنبت حدائق الشعر في منافذ الشاعر، وليس من الضروري أن يعيش الشاعر على جناح الفرح ووسادات البهجة لكي ينشد أمام الناس لحناً جديداً، إذ إن السأم من كل شيء حتى من المطر والشجر والنهر العذب والفضاء البشري هو الجسر الذي يقطعه المبدع هرباً من الضجيج ليعلن ثورته ضد كل شيء، فيلغي كل شيء ويكتب قصيدته في الضجر والسأم.
ولا يمكن أن يعيش الشاعر لحظات الملل من دون أن يلتف حول ذاته ويغيب عن حضرة الروح فيمسك بالقصيدة في شارع لا يمر به الناس، وقد غمرنا التاريخ الأدبي بقصص الشعراء الذين مل بعضهم من الرفاهية المطلقة أو من مجاورة الوجهاء ونعيم الحياة ورغدها، فهربوا إلى حيث الإنسان الأول يتفكرون بين جدران الكهوف وفي الغابات في هذا المخلوق الذي يسمى الإنسان وما يحيط به من موجودات، فخلصوا إلى حقائق مذهلة بفضل الضجر والملل الذي سكنهم طوال رحلتهم مع الحرف.
وإذا عدنا إلى الوراء فإن شاعراً مثل زهير بن أبي سلمى قال: «سئمت تكاليف الحياة ومن يعش/ ثمانين حولا لا أبا لك يسأمِ». فحتى بلوغ الشاعر أرذل العمر تخيفه الوحدة ويضجر من الوهن والضعف، لكن أبداً شعره لا يصل إلى مرحلة الوهن، وإنما الذي انتابه ليس سوى وهن الضجر وغرابة السأم ولوعة الملل، والشعراء في كل أحوالهم في غربتهم يقرون بأنهم عالم آخر وسلطان لا يعرف أبوابه أحد لأنهم بكل بساطة أثبتوا أنهم ملوك الوحدة وأصدقاء العزلة، لا تخيفهم الجموع التي تحتفي بمجدهم الذي لا يزول، ولا يأبهون للعز الذي يرفعهم بين الناس.
عبر أبو تمام الذي عاش ما يقرب من ثلاثة وأربعين عاما بكل عفوية وذكاء شعري لا نظير له عن قدرة الشاعر على فهم وَهْم الطبيعة البشرية واستعلائها فقال بعد ملل وسأم وضجر من أحوال المتجبرين في الأرض: «ليس الغبي بسيّدٍ في قومه/ لكنَّ سيّدَ قومه المتغابي». هذه الإشكالية التي جسدها أبو تمام تعبر عن الدهاء الشعري والفلسفة التي يحبها الحكماء وتوافق أهواء العامة الذين يعيشون على إنصاف الشعراء وإن كانت هذه الكلمات الحارة التي أسست لمعانٍ عميقة في الحياة وأنصفت البسطاء وجعلتهم سادة في أقوامهم رغم قلة حيلتهم وضعف مكانتهم يتغابون لكي يحققوا المعنى الخفي للسيادة والرفعة، وأنا أعتقد أن أبا تمام لم يكتب هذا البيت إلا بعد أن مر بتجربة عظيمة في السأم والضجر.
لقد ألقى بنا الشاعر العربي الإفريقي محمد الفيتوري إلى أرض المفاجآت حين قلب الحقائق ليثبتها من جديد بالملل ويضعها في نصاب البسطاء عندما تحرر من الزيف وقال: «دنيا لا يملكها من يملكها/ أغنى أهليها سادتها الفقراء/ الخاسر من لم يأخذ منها/ ما تعطيه على استحياء/ والغافل من ظن الأشياء/ هي الأشياء».
وخلاصة القول إن حقيقة الشعر مرتبطة بشكل أصيل وجوهري بما يدخره الشاعر من مواقف طارئة تجعله يموت على صخرة الضجر ليحيا من جديد في سماء الإبداع.

hala_2223@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى