ما بين فرنسا والجزائر
مفتاح شعيب
كانت الزيارة التي أداها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر خاطفة، ورغم قصرها، شكلت حدثاً باعتبار أن أي لقاء على مستوى رفيع بين البلدين يثير الجدل، ويستدعي ملفات عالقة من الماضي، وأهمها بالنسبة إلى الجزائر، تصفية الذاكرة الاستعمارية، وإزاحة ما يعطل إقامة علاقات طبيعية بين البلدين.
كل المساعي التي بذلت على مدى العقود الطويلة لم تنجح في إحداث اختراق؛ بسبب عدم رغبة الحكومات الفرنسية المتعاقبة في «التورط» بالاعتراف بالجرائم الاستعمارية، والاعتذار عنها. وبطريقته، مهد ماكرون لزيارته إلى الجزائر بحديث صحفي استنكر فيه الحقبة الاستعمارية؛ لكنه رفض، باسم الدولة الفرنسية، «التوبة عنه»، معللاً ذلك بأنه لا يريد أن يكون رهينة للماضي، وهو موقف على ما فيه من «حسن نية» لا يشفي غليل الجزائر، التي تطالب بالاعتذار الرسمي، والتعويض عن جرائم الحرب، التي قتلت نحو سبعة ملايين جزائري على مدى 130 عاماً من الاحتلال. ولا يبدو أن هذا الشرط المبدئي قابل للتفاوض؛ لكن يمكن التخفيف منه بتقديم تنازلات متبادلة؛ لفض المشكلة بهدوء دون التقليل من شأنها أو مس جوهرها. وما يرد من تصريحات لمسؤولين في الجزائر وباريس يؤكد الحاجة المشتركة لبعضهما، فالمستقبل بينهما يتطلب فتح صفحة جديدة، وطي السابقة. وفي الحوض الغربي للبحر المتوسط هناك حاجة إلى شراكة فاعلة بين البلدين تأخذ في الحسبان شروط النهوض بتلك المنطقة، ومصالح الدول الشريكة.
المشكلة الراهنة تتعلق في عدم إيجاد معادلة توازن بين المطالب الجزائرية والتحفظ الفرنسي. ومدفوعاً بعقيدة حزبه «إلى الأمام»، يحاول ماكرون إيجاد استراتيجية جديدة بخصوص العلاقة مع الجزائر، ولم يخف في مواقف سابقة من أنه يعول على جيل جديد في البلدين ينتمي إليه هو؛ لينظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل برؤية مختلفة. وعلى افتراض أن هذه السياسة ستحقق أهدافها، فستتطلب زمناً طويلاً حتى تتغير المفاهيم وتثبت نواياها في إقامة علاقة تقوم على مبدأ «الند للند». وحتى تنجح فلا يجب أن تقتصر على العلاقة بين فرنسا والجزائر، فهناك دول إفريقية عدة من المستعمرات السابقة تساند الجزائر، وتأمل نجاحها في الضغط على باريس؛ لانتزاع اعتراف بجرائم الاستعمار؛ وإلغاء تبعاته، وهو ما سيسمح لتلك الدول بالنسج على المنوال الجزائري.
على الجانب الآخر، تخشى الدولة الفرنسية من فتح هذا الملف الشائك؛ لأنه سيجرها إلى معارك سياسية وقانونية؛ لذلك هي تعمل على تجاهله وتجاوزه، وتبذل في ذلك الكثير من المغريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمستعمرات. وخلال مشاركته الأخيرة في القمة الأوروبية الإفريقية في أبيدجان، كانت فرنسا من أكثر الداعين إلى فتح صفحة جديدة، وكرر ماكرون اعترافه بأن جرائم بلاده الاستعمارية «أمر شائن»، ولا يجب أن ينظر إليها على أنها عائق. وتدعمه في هذا التوجه نخبة فرنسية من الشباب تحاول أن تتبرأ من جرائم الأسلاف، على الرغم من أن ذلك لا يسقط مسؤولية الدولة الفرنسية بجمهورياتها الخمس عما اقترفته في الشعوب الأخرى. ولا شك أن طي تلك الصفحة يستوجب ثمناً كبيراً، ربما لا تستطيع فرنسا تحمله في الوقت الراهن.
chouaibmeftah@gmail.com