ما لاحد مِنّة
عادل الكلباني
إن تذكر الجهد الذي بذل لتصبح هذه القطعة المباركة من الجزيرة مملكة عزيزة ذات ثقل عالمي ليس ترفاً في الحديث، بل هو تذكير بنعمة الله فيُشكر ويُذكر، وتذكير بفضل ذوي الفضل في نعمة أسبغت علينا بجهدهم، وتضحيتهم، وجهادهم، فندعو لهم، ونشكر لهم، شكراً لله، فمن لا يشكر الناس لم يشكر الله..
الارتباط بين الإنسان ووطنه ارتباط روحي عبر عنه نبينا صلى الله عليـه وآله وسلم حين أخرج من مكة مهاجرًا، ووقف ناظرًا إليها كالمودع يقول: مَا أطيبكِ من بلد وأَحبَّكِ إلَيَّ. فكان هذا الحب وهذا الرابط من المحفزات الربانية التي وضعت في قلب حبيبنا صلى الله عليـه وآله وسلم لتكون مصاحبة له في كل أقواله وأفعاله أملاً في العودة إلى هذا الوطن بوضع آخر غير الوضع الذي خرج منه. ولم تكن تلك العواطف الجياشة تجاه الوطن مختصة بنبينا صلى الله عليه وآله وسلـم، بل كذلك كانت في نفوس أصحابه، رضي الله عنهم، فهذا بلال رضي الله عنـه كان إذا رفع رأسه من مرضه الذي عمّ كثيراً من الصحابة عقب هجرتهم يقول:
فياليت شعري هل أبيتن ليلةً
بفجّ وحولي إذخر وجليلُ
فحب الوطن والتعلق به والحنين إليه فطرة وجبلة بشرية، لم ينكرها الإسلام، وإنما هذبها وقومها، ووجهها وجهتها الصحيحة وتممها كما فعل في مكارم الأخلاق.
وكان النبي صلى الله عليه وسلـم يقول: “اللهم حبب إلينا المدينة، كما حببت إلينا مكة وأشد” فكان حبهم لمكة وللمدينة هو من الحب الذي جعله الله في نفوس الناس جميعًا لأوطانهم!
في الوطن “مسقط الرأس” وفيه البدايات من الذكريات، وفيه استمرار الحياة، اقترنت به وفيه كل مواقف الجمال والحب والعبادة والنظر والمجالسة، والأهل والأصحاب والأحباب، والأمن، والاستقرار، وفيه المأوى.
جعل الله لنا في الوطن معايشنا وأرزاقنا، وفيه حفظت أموالنا وكرامتنا، وبقوته وشموخه تعصم دماؤنا وأموالنا من أعدائنا، بل وأكثر من ذلك فنحن خلقنا منه وفيه نعود فنحن منه وهو منا فلا فرق بين أجسادنا وترابنا، وفي الحديث: “إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض. جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث، والطيب والسهل، والحزن وبين ذلك”، فالنسبة إلى الوطن ليست نسبة اسم وصفة وحسب بل هي نسبة اختلاط في الخلقة.
ولا يقتصر حب الوطن على الإنسان، فالطيور والمخلوقات لها أيضًا حنين إلى أوطانها ومنابع أصولها، بما ركبه الله في النفوس من طبيعة لحب الوطن، عبر عنه الأدباء والشعراء، كما قال أحدهم:
تحنُّ قلوصي نحوَ نجدٍ وقد أرى
بعينيَّ أنِّي لستُ موردَها نجدا
وقال آخر حين أراد مفارقة وطنه لطلب محبوبته، فلاحظ أن ناقته لا تريد مفارقة وطنها ووديانه ومياهه وخضرته:
هوى ناقتي خلفي وقدَّاميَ الهوى
وإنِّي وإيَّاها لمختلفانِ
فهل تجد بعد ذلك إنسانًا كامل الخلقة يتنصل من حبه لوطنه وبلاده، ويعتبره شيئًا عاديًّا؟
إن الكلام في الذكرى اليوم الوطني ليس من الزاوية الفقهية التي تعلق بها “أحكام الحلال والحرام” بل هو نظر من زاوية اعتيادية على فعل مباح، يحيي الإنسان به روح الارتباط بينه وبين وطنه، ليزيد عطاءه، ويقوي نشاطه، بما يخدم هذا الوطن ويحفظ أمنه واقتصاده وحدوده. ويذكر نعمة ربه عليه إذ احتوته أرض آمنة، مستقرة، يأوي إليها، وتحتضنه، وهو يرى آلافاً مؤلفة مشردة أخرجت من ديارها وأموالها.
وطني الحبيب في ذكرى توحيده الغالية على القلب حَريّة بالتفاعل والإشادة والحضور الإيجابي المعزز لما يجود به هذا الوطن من خيرات أودعها الله فيه، وتهوي إليها أفئدة الناس أجمعين من كل أنحاء العالم.
إن تذكر الجهد الذي بذل لتصبح هذه القطعة المباركة من الجزيرة مملكة عزيزة ذات ثقل عالمي ليس ترفاً في الحديث، بل هو تذكير بنعمة الله فيُشكر ويُذكر، وتذكير بفضل ذوي الفضل في نعمة أسبغت علينا بجهدهم، وتضحيتهم، وجهادهم، فندعو لهم، ونشكر لهم، شكراً لله، فمن لا يشكر الناس لم يشكر الله. ثم أن نعلم أبناءنا أن الحفاظ على النعمة يحتاج إلى تفاعلنا الإيجابي مع التغيرات العالمية في النمو الاقتصادي والتطور التكنولوجي، ويوجب علينا المراجعة والإصلاح والتغيير الفكري والعملي بما يتناسب مع المكانة العالمية التي يحتلها وطننا الحبيب، فعلى قدر الهمم والتضحيات والعطاء تأخذ الأوطان مراتبها المرموقة في مواكبة الشعوب الأخرى من حيث أدوات الحياة والمعيشة، وإلا فوطننا وبلادنا في ميزان “ديننا وكتابنا” هو قبلة المسلمين، ومأوى المستضعفين، ونصير المظلومين، وكم لهذه البلاد من فضل على كثير من بلدان العالم من المسلمين وغير المسلمين. وما أصدق ما قال البدر وعنونت به المقال:
ما لاحد منّة، الله اللي عزنا، روحنا كتاب الله، وقلبنا السنّة. هذا، والله من وراء القصد.
* نقلا عن ” الرياض “