ما موقع العرب من هذه الجملة؟
د. نسيم الخوري
«عندما تعجز الشعوب عن الاستجابة تبدأ بالانحطاط، وهو ما يتمّ غالباً بأزمات اجتماعية داخليّة أو باجتياحات خارجية، إذ تؤخذ المدنية بين قوى خارجية وداخلية غير متحضّرة تفرز التطرف القومي والعسكري والديني الذي ينمو على مخلّفات بقايا الثقافة الموروثة من زمن الازدهار… عندها تشارف الحضارة مرحلة الموت والانتهاء».
أبادر إلى التفكير أننا صرنا خارج هذه الدائرة التي رسمها آرنولد توينبي بحثاً عن إيجاد قواسم مشتركة بين أكثر من عشرين حضارة، مؤكداً أن الإنسان هو في تحدٍ دائم من الطبيعة والبشر، وهو يستجيب لهذه التحديات بمواقف متنوّعة، وباختلاف الاستجابات تختلف الجماعات. الاستجابات القوية هي عنوان التمدّن، والضعيفة عنوان للبداوة، لهذا يمكن أن تختلط الصور أو النظم البدائية بعناصر أكثر تقدّماً مثل الدين والابتكار في مجالات الفنون والآداب.
يبنى هذا التفكير على مؤشر نهضوي وعربي ثابت تجعلني أنظر بتفاؤل إلى بلادنا بكونها صاحبة هوية، وتخطو مع العالم نحو حضارة واحدة بالرغم من كل المآسي التي اجتاحت بلادنا العربية، وشوّهت القيم والأديان وكبحت رغبات الانفصال المكبوتة وخفّفت من هول الصدمة التاريخية الناتجة عن الشعور بالتخلّف تجاه الآخر؟.
والحقيقة أنه في ضوء صعوبة الجمع بين الشظايا المتباعدة والمتناقضة في نهش الدول لبعضها البعض، يمكن رصد محورين ثابتين يقيّدان الفكر لا الدول في فلكهما: محور تقديم العقل وهو ما زال متنامياً، ومحور يرتّب الروح إلى جانب العقل محاولاً إعادة الاعتبار إلى الدين كزخم يدفع بالإنسان والحضارة إلى الأمام. محور الفعل وردّة الفعل. محور يعتبر التطوّر غير محصور بالعقل؛ لأن الحضارة التقنية الغربية تحمل بخّور المسيحية التائقة إلى الله/الينبوع و«وعود الإسلام»- الله الأكثر صفاء وصدقاً من وعود الإنسان، ومحور يغوص في ينبوع العقل ويفجّره، معتبراً بأن المسيحية قد أفلحت في مشروعها، وأن الإسلام المؤسّسي سلطان ونظام يحرمه ينابيع كينونته، بحيث أن الدولة الوجه الآخر لهذا الدين، تفكّكت ولم يبقَ منها سوى تاريخ الحكّام ودولهم الخاصة بهم.
ومع أن المسألة المثارة أفلت وكأنها جملة معترضة، لكنها تدفعني للعودة إلى ما قبل الفكر الديني عندما استلّ سقراط مثلاً الفلسفة من السماء والميتافيزيقيا وفجّرها في المحاورات أو الأسئلة والأجوبة الكامنة في أعماق الإنسان محور الوجود وعقله طريقاً للمعرفة. كان رائداً في البناء المنهجي الفلسفي الذي فسّر الحياة بالوحدة المتماسكة عضويّاً. لن أستعيد الفلسفة الإغريقية ولن أرجع إلى غيرها من الفلسفات القديمة والحديثة التي علقت بمعظمها في معضلة تفكيك الهندسة الإيديولوجية لمفاهيم الحضارة وخصوصاً الإنتاجية الراهنة منها منذ انبثاق الثورة الصناعية في أوروبا.
أقفز من سقراط 5500 سنة إلى الأمام هادفاً من هذه المخاطرة فهم تعقيدات التحدي الذي يربط الحضارة بالقوة وتعاظم التحديات إلى مستويات نحر الدول وتدميرها المتبادل. لست قارئاً هنا في التجارب الخليجية والألبانية والماليزية أو اليابانية والصينية سوى للتأكيد على أن الإنسان سيبقى المؤشّر والحفّاز الأساسي في الإبداع والوعي، والكائن الأقوى والأكثر تفوّقاً في العالم، وهو لا يعامل العالم على اعتباره قدراً وحسب، بل يعامله بصورة إيجابية هادفة وواعية وعادلة ليصبح التمحور حول سعادة الشعوب وتأمين مصالحها ورخائها، إذ لا قيمة لأيّ شيءٍ لا يخدم الإنسان. يفترض بالإنسان أن يحقق صدى الله بكونه على صورته ومثاله لا أن «يشطح» فيخافه والله لا يخيف.
وقد ينقذنا من تحكّم الشعور بالدونية لدى الكثير من مفكّرينا وحكّامنا الانتباه إلى أن الخطابات والمواقف المتشنّجة والعنصرية والمذهبية في أنحاء العالم، لم تعد تعني سوى صرخات الحضارة الصادقة باستحالة العيش عندما تمّحي الهوية والحدود الشخصية والاجتماعية والوطنية للإنسان. حتى الولايات المتحدة الأمريكية تصرخ اليوم: «أمريكا أوّلاً» تأكيداً على حدود الدول وكأننا نسمع وقع اجتياحات العولمة وفشلها في تذويب الخصوصيات الثقافية والفكرية وترسيخاً جديداً لمبدأ سيادة الدول ومركزيتها، ليس في الولايات المتحدة، بل في دول العالم كلّه التي عادت تتمسّك بهوياتها التي أضاعتها بعدما أضنتها العولمة، وتضخّمت سلبياتها، وكادت تجرف معها إيجابياتها الكثيرة عندما عصفت بها الفوضى بحثاً عن تجليس العالم وتركيع الدول بمسطرة الديمقراطيات المتفجّرة.
كان يُنظر إلى أمريكا بوصفها المجتمع العالمي الأول في التاريخ، ومنبع الإيديولوجية العالمية الواحدة المحتملة، حيث حرية الفرد كانت تعني نظرياً سيادة الشعب. تلك دعوات أمريكية هائلة كانت تروّج في آذان العالم بانتفاء المركزية وحلول شمسيّة المعلوماتية مكان القوة التقليدية، أو الإرثية للدول، وتؤكد سقوط استراتيجيات القوة لتقوم مكانها ديناميات الجماعة العالمية في خلق الأفكار، وإدارة الإعلام، وحسن هندسة التعاون في بناء جديد للحضارة الإنسانية.
وبهذا المعنى، ما زالت الحضارات إنتاجاً و/أو استهلاكاً، حتى عصر التكنولوجيا والمعلومات، تشابه البشر، فهي تنمو وتعظم وتموت وهي حركة سائرة بالجبرية، وفيها عناصر ثابتة وعناصر أخرى متغيّرة. تعتبر العناصر الأولى مميّزة باعتبارها قواسم مشتركة تركّز عليها البشرية في تطلّعها إلى حضارة واحدة. ويعتبر الإنسان هو الأساس في بناء الحضارات التي قد تكون بدورها مبعث المآسي الإنسانية إذا لم يتوفّر لها عوامل المصالحة والتوازن بين العقل وحدود هذا العقل في إدراك المطلقات، وما يستتبعها من نبلٍ في القيم والمناقب، الأمر الذي أوقعه في مهاوي الشك ودياميس القلق والتوتر، وأحدث في الحضارة الغربية تفسّخاً وفوضى.
drnassim@hotmail.com