محاولة فك لغز «داعش»
د. محمد الصياد
موضوع «داعش» ليس موضوعاً سياسياً خالصاً، بقدر ما هو موضوع يتصل في العمق بعمل أجهزة استخباراتية، وإن بقي من الناحية المبدئية موضوعاً سياسياً؛ بل واستراتيجياً يطاول كليات الصراع الجيواستراتيجي بين القوى العالمية والإقليمية؛ من أجل إعادة تموضعاتها الاقتصادية بالدرجة الأولى.
من خلال تتبع وفحص تسلسل أحداث صعود وأفول نجم هذه المنظمات الإرهابية، وكل ما يتعلق بها من معطيات مادية وإعلامية، رسمية وموازية، ومواقف سياسية صريحة وضمنية، مباشرة ومواربة غير مباشرة، فإن المنطق الاستدلالي في هذه الحال يميل إلى ترجيح مقولة أن تنظيم «داعش»، وقبله تنظيم «القاعدة» وتفريخاتهما، الحالية والمستقبلية، ليست بضاعة منتجة محلياً، بقدر ما هي بضاعة أجنبية، ليس فقط برسم كل المعطيات المتوفرة والدالة عليها دلالة لا يكاد يقاربها الشك، وإنما أيضاً برسم الاعترافات الرسمية لكبار مسؤولي المؤسسة الرسمية في الولايات المتحدة، لاسيما الاعتراف الشهير لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة ومرشحة الرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون، وإعلانات الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب حول الدور الذي لعبته الإدارة الأمريكية السابقة في إنشاء تنظيم «داعش»، إضافة إلى حصيلة السنوات الأربع الماضية من المعطيات التأشيرية، ناهيك عن الصمت الأمريكي والبريطاني والفرنسي، والأوروبي الغربي عموماً، الغريب والمريب، عن تنظيم «جبهة النصرة»، الفرع السوري لتنظيم «القاعدة»، الذي تشير كل الدلائل إلى أنه يحظى برعاية خاصة تندرج في إطار حزمة أوراق الضغط التي تحرص القوى العظمى على جمعها وحيازتها؛ لاستخدامها بالطرق التي تقترحها وتقررها أجهزتها الأمنية.
أكثر من مصدر، بما في ذلك «بي بي سي» الإنجليزية، ومجلة «نيوزويك» الأمريكية وعدد من وسائل الإعلام الغربية الأخرى مثل «سي بي اس»، تناقلت خبر تغطية الضباط الأمريكيين لعملية إخراج 250 من مقاتلي «داعش» من الرقة برفقة 3500 من أفراد عائلاتهم. كما أشارت بعض المصادر إلى ترتيبات نقل الولايات المتحدة لنحو 7000 من مقاتلي «داعش» إلى بعض مناطق أفغانستان، يجري العمل على التحضير لتوظيفهم في تغيير بعض الأنظمة القائمة في آسيا الوسطى، وذُكر من بينها اسم أوزبكستان. وقد يكون الهدف من نقلهم عبر أكثر من 1600 كم (من سوريا والعراق)، إنشاء وضع تتقاتل فيه «طالبان» مع «داعش» لتصفية بعضهما.
هنا أيضاً سوف نتذكر كيف سهلت أجهزة الأمن الأوروبية خروج عشرات الآلاف من مواطنيها المجنسين عبر كافة منافذها الرسمية، للتوجه بأعداد مهولة – كانت في وقت من أوقات سنوات الجمر السورية (2012-2013) تغص بهم قاعات المطارات الأوروبية – إلى دولة المصب تركيا، ومنها إلى داخل سوريا. وما إن بدأ تنظيم «داعش» ومشتقاته يتلقون الهزائم الواحدة تلو الأخرى، حتى صرنا نسمع تصريحات كبار المسؤولين الأوروبيين الغربيين بشأن ترقب عودة بقايا هؤلاء المجندين إلى بلدانهم الأوروبية، واحتمال قيامهم بعمليات انتقامية ضد الحكومات الأوروبية. وذُكرت أرقام محددة للعائدين.
فالأجهزة الأمنية الأوروبية تعرف تماماً هذه الأعداد، فلديها قوائم بأسماء الأشخاص الذين توجهوا منها إلى سوريا والعراق للقتال في صفوف «داعش» و«النصرة» وبقية التنظيمات الإرهابية، وهي تترقب وصول من هم على وشك العودة للديار.
وغني عن القول إن الحكومات الأوروبية الغربية، خصوصاً بعد الفخ الذي نصبه حلف شمال الأطلسي «الناتو» بقيادة الولايات المتحدة، للاتحاد السوفييتي في أفغانستان اعتباراً من عام 1979، كانت توفر كافة أسباب الدعم والرعاية للمساجد التي تم تحويلها إلى مراكز تعبئة جهادية عملت على مدى سنوات، تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية الأوروبية، على تجنيد وإرسال المقاتلين إلى أفغانستان، قبل أن يتم تعميم التجربة لتشمل فيما بعد العراق وسوريا وليبيا وغيرها من مناطق الصراع الدولي، كفيالق تعمل على تحقيق أهدافها بصورة غير مباشرة، وكسواتر لمسوغات تدخلاتها المباشرة الباغية تعظيم المصالح وشوكة النفوذ.
alsayyadm@yahoo.com