مدن القوة
تأليف:جوران ثيربورن
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
على مر القرون، كانت جاذبية وقوة المدن تشهد انتعاشاً، لكنها على ما يبدو تهدد استمرارية الأمم التي تحيط بها، إذ نجد لأول مرة في التاريخ أن أكثر من نصف سكان العالم يعيشون في المدن. يحاول الكاتب السويدي القدير جوران ثيربورن في هذا العمل أن يعاين الأسباب التي تجعل من المدن مراكز للقوة عبر التاريخ وفي الوقت الحاضر، وذلك عبر القوى الحضرية، والوطنية، والشعبية، والعالمية، مستعرضاً العديد من النماذج والنقاشات التي توصل إليها بعد جهد بحثي كبير ورحلات إلى أهم العواصم في العالم، وينظر من خلالها إلى مستقبلنا في ظل رأسمالية لا ترحم.
يتناول هذا الكتاب البحثي الغني – الصادر عن «دار فيرسو» في 408 صفحات من القطع المتوسط – اللقاءات والعلاقات بين أربع قوى اجتماعية هي: القوى الحضرية، الوطنية/القومية، والشعبية، والعالمية. ويقول الكاتب عن ذلك: «علينا أن نراقب كيفية لقاء وتغير الموطن الحضري منذ فترة القوى القومية حتى الوقت الحاضر. فالقوى الحضرية قديمة، إذ تواجدت في المدن منذ آلاف السنين، لكنها تغيرت مع وصول القوى الوطنية على شكل الدول -الأمم، وذلك قبل قرنين من الزمن. وركّز التحوّل الوطني للمدن على المركز الحضري للدولة – الأمة، عاصمتها، والتي هي هدف هذه الدراسة. المدن قبل المرحلة القومية في الغالب تشكلت من أنماط مختلفة تغيرت إلى مدن وطنية، لكن في بعض الأحيان شيّدت المدن القومية مدناً جديدة لنفسها. ووصلت الدول-الأمم إلى عواصمها المختارة عبر العديد من المسارات التاريخية المختلفة وبعد رحلات طويلة أو قصيرة، شاقة أو سهلة. وتركت هذه التجارب التاريخية على كل عاصمة علامات طويلة الأمد».
ويوضح أكثر في هذا السياق: «كانت القومية والدول-الأمم جزءاً من تغير أكبر بكثير، تمثلت في: صعود الحداثة كعصر تاريخي جديد، رفض سلطات ومؤسسات الماضي (العالمية – الداخلية أصبحت فوق الجميع)، ومحاولة خلق مجتمعات جديدة، ثقافات جديدة، وعالم جديد. التقت القوى العالمية والوطنية بداية في هذا السياق، كقومية عالمية. أماكن هذه اللقاءات الكبرى كانت العواصم القومية/ الوطنية، والتي توجب عليها أن تتكيّف مع نماذج عالمية لتكون عاصمة «جديرة بالأمة»، فتمضي في مسارات مثل مسارات خطتها باريس الإمبراطورية الثانية، أو في مناطق ضمن البنية التحتية للندن، وفي المول والمبنى البيضاوي لواشنطن».
التحولات الجذرية
يقوم الكاتب جوران ثيربورن عبر هذا العمل المهم بجولة في عواصم العالم الكبرى، ويعاينها عن قرب، ليبين كيف تم تشكيلها من قبل القوى الوطنية والشعبية والعالمية. يشير إلى أن قصصها تبدأ مع ظهور أنواع مختلفة من الدولة-الأمة، وكل منها مع عاصمة خاصة بها، تكون إشكالية. وفي المقابل، أثرت التحولات الجذرية في السلطة على تنمية هذه المدن، وفي الإصلاحات الحضرية الشعبية أو حركات الاحتجاج والمقاومة؛ وفي صعود وهبوط الفاشية والدكتاتوريات العسكرية؛ وقدوم وأفول الشيوعية. كما يحلل ثيربورن اللحظات العالمية من التشكيل الحضري، والقومية المعولمة، ويتوقف عند مدن الرأسمالية العالمية الحالية واختلافاتها.
ويقول في هذا السياق «الأمم تطورت وتغيرت، والنخب التأسيسية للدول- الأمم قوبلت بتحديات شعبية من هيمنة مجموعات عرقية وفئوية هي تابعة أساساً. في بعض الأحيان، كانت هذه التحديات قوية وناجحة بما يكفي لخلق لحظات شعبية متميزة من القوة، وتجلت في التاريخ الحضري. كما أن الصراعات القومية على السلطة يمكن أن تأخذ أشكالاً عنيفة ومتطرفة، وليست مدمرة وعابرة فقط، مثل الحروب وحالات الشغب، بل أيضاً، لفترة من الزمن، توطدت الأشكال في العواصم، والتي يجب أن ننعم النظر فيها أيضاً. ففي الآونة الأخيرة، «هيمنت القوى العالمية على موقع المركز، وكانت في البداية على شكل الرأسمالية العالمية العابرة للحدود».
ويضيف: «بالنسبة لعدد ليس بالقليل من الكتّاب المعاصرين، تعتبر القوى القومية على حافة أن تصبح من الأنواع المنقرضة، خاصة في المدن الكبيرة»، ويؤكد الكاتب: «علينا أن ننظر في هذه المزاعم، بعين الشك لكن بجدية في الوقت نفسه، في محاولة لتفكيك الديناميكيات المتقاطعة للقوى العالمية والقومية والمحلية في أسلوب جديد من الحضرية العولمية، والحداثية، والاصطفائية. وفي النهاية ذاتها، علينا أن نلقي نظرة على مستقبل قوانا الأربع».
تطور العواصم
عبر عدسة تاريخية عالمية، ومع مجموعة مواضيع تمتد من طفرات العمارة الحداثية إلى العودة المعاصرة للثورات المدنية، تلقت أسئلة ثيربورن افتراضات حول مصدر، مظاهر، ومدى القوة الحضرية، جامعاً بين وجهات النظر المتعددة بشأن السياسة وعلم الاجتماع، والتخطيط الحضري، والهندسة المعمارية، والأيقونيات الحضرية. ويشير إلى أن هناك صلة قوية بين المدينة والدولة القومية، وأن العولمة الحالية للمدن تقودها إلى حد كبير تطلعات السياسيين العالمية، بالإضافة إلى رأس المال الوطني والمحلي.
يتعقب الكاتب المسارات الملتوية التي سلكتها عواصم اليوم لتصبح «حديثة» وعلاقاتها مع الدول المضيفة لها والسمات المعمارية التي تمثل القوى المهيمنة في تلك البيئة الحضرية.
ويسلط الضوء على عدد من أبرز عواصم العالم مثل العاصمة الأمريكية واشنطن، حيث المناطق السوداء الفقيرة «في تلك المدينة ذات الأغلبية السوداء غير مرئية في الغالب لأعضاء الكونجرس والنخب الفكرية وكذلك للزوار العاديين، والعاصمة الفرنسية باريس إلى العاصمة الكازاخية أستانة التي تبرز في القرن الحادي والعشرين، كما يشير إلى أن لندن تعد أول مدينة عالمية حقاً، لما تتميز به من جذب لرغبات الاستثمار الرأسمالي المعولم حسب القيم المشتركة لمواطنيها والحكومات. كما يتوقف عند العديد من الرقع المأهولة بالسكان، مقدماً تحليلات متعددة الأوجه، وساعياً بذلك إلى دفعنا لإعادة التفكير في مستقبلنا الحضري، بالإضافة إلى حاضرنا المتشكل تاريخياً.
يمكن النظر إلى الكتاب على أنه من جزأين: الأول هو لمحة عامة عن تطور الدول القومية وعواصمها في أجزاء مختلفة من العالم. والثاني هو نظرة أكثر إيديولوجية إلى النوايا والعمليات والعواقب الخاصة للفاشية والشيوعية والرأسمالية العالمية في مدن معينة.
وتفصيلاً بشأن المحتوى، يأتي بعد المقدمة المعنونة «القوى الحضرية، الوطنية، الشعبية، العالمية» في عشرة فصول هي: 1) المدن والقوة والحداثة. 2) الأسس الوطنية: أوروبا – تحويل المدن الأميرية. 3) الأسس الوطنية: انسحاب المستوطنين. 4) الأسس الوطنية: تأميم الاستعمار. 5) الأسس الوطنية: الحداثة التفاعلية. 6) الشعب يصعد: اللحظات الشعبية في التاريخ الحضري الحديث. 7) تمجيد السلطة: الفاشية والدكتاتوريات المتقاربة. 8) مجيء وذهاب الشيوعية. 9) اللحظات العولمية في المدن القومية. 10) العاصمة العولمية، مستقبل العواصم القومية وشعوبها.
الفاشية والشيوعية
في الفصلين السابع والثامن يتناول الكاتب الفاشية والشيوعية، ويتوقف في مناقشته على الأساس الإمبريالي لحكم هتلر وموسوليني، وتأثيره على عواصم كل منهما. وعلى الرغم من أن هناك جانباً مؤهلاً لنمط السكن في روما الفاشية الناشئ عن التفكير والتصميم الحداثي على خلفية قديمة، إلا أن ثيربورن يشارك بوضوح أفكار ألبيرت سبير عن خطط هتلر المعمارية لألمانيا التي أصابت عموم الشعب الألماني بالجنون تماماً لغرابتها.
على الجانب الآخر من الانقسام الإيديولوجي، ثيربورن مدرك في كتابته لفشل الدول الشيوعية، التي كانت كثيرة ومتنوعة، ولكنه أيضاً يتطرق إلى نجاحاتها. والأكثر إثارة للإعجاب، في كلا الفصلين، هو التزام ثيربورن بالطابع المتميز للعواصم التي يدرسها، مشيراً إلى أن أنماطها المعمارية وتطورها الحضري لا تندرج تحت غطاء «الشمولية»، بل يجد بدلاً من ذلك نمطاً متحولاً من الطابع الوطني والسياق التاريخي، وألعاب السلطة البيروقراطية والمقاومة الشعبية. مثلاً أصبح من الشائع التعامل مع كل شيء في برلين الشرقية قبل عام 1990 إما أنه رتيب أو مثير للجنون. ثيربورن يعيد بعض الحياة واللون والطموح للشعب الذي عاش فعلاً هناك.
ثيربورن يكون في أفضل حالاته، ككاتب، عندما يسمح لبعض الفكاهة الشخصية بالظهور في سرده، خاصة حينما يتحدث عن رحلاته إلى أستانة عاصمة كازاخستان ونايبيداو عاصمة ميانمار، أو عندما يوجّه شكراً خاصاً لزبيجنيو بريجنسكي الذي عمل مستشاراً للأمن القوى لدى الرئيس الأمريكي جيمي كارتر (1977-1981) لتأجيج «معاداة الحداثة» في أفغانستان.
العولمة ومستقبل الناس
يقدم الفصلان الأخيران تحليلاً عن وقتنا الحاضر، مع معاينة المعمار الرأسمالي، تاريخه الجمالي، رمزيته وتشابكه مع القوى الدافعة للرأسمالية المعاصرة، مثل البنوك والشركات متعددة الجنسيات والدول الأمم نفسها.
وتحت عنوان «العولمة ومستقبل الناس» ينهي الكاتب عمله قائلاً: «مستقبل العولمة، والعمران الرأسمالي، بالإضافة إلى الشركات العالمية يبدو أنه حتمي وواضح، ومصيره الاستمرارية، وعلى الأرجح، يتجه نحو التوسّع في التأثير والنفوذ. لكن السؤال الصعب والأساسي هو مستقبل الناس. هل سيكون لدى الناس من مستقبل في عالم من الرأسمالية العولمية القاسية؟ «تقريباً حياة من الالتزام السياسي، والملاحظة، والتحليل علمتني ألا أتوقع أي شيء شامل ومتساو من رأسمالية لا يمكن كبح جماحها، وحدوث حالات التمرد أمر يستحيل توقعه، لكن ذلك ما يتم القيام به مراراً وتكراراً».
ويضيف: «في الحقيقة، أعتقد بوجود سببين للتفاؤل المعتدل بشأن توقعات لحظات شعبية مستقبلية. الأول هو العودة الأخيرة للثورات المدنية الشعبية. فالتكاليف الدولية للقمع الوطني ازدادت ومن المحتمل أن تبقى عالية. مثل هذه الثورات أو تغيرات النظام بتأثير احتجاجات الشوارع الشعبية سوف تبقى من المحتمل في الديمقراطيات الانتخابية المتماسكة، لكن هناك ربما يتحولون إلى أحزاب – حركات يلعبون بنجاح اللعبة الانتخابية. تظهر الأمثلة الأوروبية الجنوبية الأخيرة أن مثل هذا السيناريو لا يتجاوز حدود الواقعية السياسية. والبلدان التي فيها شرعية انتخابية ودستورية سليمة، سوف تشهد تكرار الانتفاضات الشعبية الناجحة مراراً وتكراراً، وربما ينتشر الأمر بشكل سريع في مناطق بإفريقيا، حيث العنف المسلح حتى الآن يقرر في كثير من الأحيان نتائج التنافس السياسي».
أما السبب الآخر بحسب الكاتب، فهو إمكانية الإصلاح المدني. وقد تم تطبيقه من قبل «الاشتراكية المحلية» الأوروبية، لكن في الفترات الأخيرة جاءت الدفعة الأخيرة من الإصلاح الراديكالي، المدني الذي شهد تحولاً بشكل اجتماعي من جنوب الكرة الأرضية، مع مدخلات طويلة الأمد من مونتيفيديو ومكسيكو سيتي، والاختراقات الأخيرة في دلهي وجاكرتا. إن هذا الأمر مشروع غير محصّن للغاية، ويعتمد على الاقتصاد الوطني الذي غالباً ما يكون تحت ضغط من حكومة عدائية في مواجهة ناخبين متقلبين من وجهة نظره.
عموماً يوضح ثيربورن في نقطة رئيسية أن الدولة الأمة هي دولة مفتوحة دائماً للمستقبل، وهي الدولة التي يمكن أن تتصور المستقبل بشكل جماعي وتتخذ قرارات بشأنه، بدلاً من تعريف واحد ومحدود من قبل فصيل متأصل في الماضي.
نبذة عن الكاتب
جوران ثيربورن من مواليد 23 سبتمبر/أيلول 1941، في مدينة كالمار السويدية. عمل أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، وأستاذاً مشاركاً لعلم الاجتماع في جامعة لينيوس بالسويد. كما شغل موقع المدير المشارك السابق للهيئة السويدية للدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية في أوبسالا، وموقع أستاذ سابق في علم الاجتماع في جامعة جوتنبرج بالسويد، وكذلك أستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة نيميجن الكاثوليكية في هولندا. ويعدّ أحد أكثر علماء الاجتماع الماركسيين تأثيراً.
نشر على نطاق واسع أبحاثه في مجلات ودوريات متخصصة مثل «نيو ليفت ريفيو»، وهو معروف بكتاباته حول المواضيع التي تقع ضمن الإطار السياسي والاجتماعي العام لمرحلة ما بعد الماركسية.
يلتزم في كتاباته بالدعوة إلى الحرية والمساواة العالمية، وهو مؤيد للحركات الاجتماعية المناهضة للإمبريالية واللامساواة.
وتشمل المواضيع التي كتبها على نطاق واسع تقاطعاً بين البنية الطبقية للمجتمع ووظيفة جهاز الدولة، وتشكيل الإيديولوجية داخل المواضيع، ومستقبل التقاليد الماركسية.
له عدد من الأعمال البارزة تتجاوز 10 كتب منها: «إيديولوجية السلطة وسلطة الإيديولوجيا» (1980)، و«من الماركسية إلى مرحلة ما بعد الماركسية؟» (2008) الذي يحاول أن يحلل فيه تطوير النظرية الماركسية ومسار الفكر الماركسي في القرن الحادي والعشرين. كما نشرت أعماله في ما لا يقل عن أربع وعشرين لغة. يعيش منذ تقاعده في 2010، في لجونجبيهولم، جنوب شرقي السويد.