مصدات للصواعق السياسية
خيري منصور
إذا كان للمعرفة من جدوى عابرة للمناسبات والتقاويم وكل ما هو موسمي، فهي قابليتها لأن تُستدعى في اللحظات التي تضيع فيها الفروق بين الأضداد، وتصبح المشاهد كلها بالأسود والأسود أيضاً، لأنها القادرة على عقلنة ما يبدو غير قابل للفهم ولترشيد الصدمات، تماماً كما هي وظيفة مصدات الصواعق!
إنها الكشف عن السبب الذي يبطل العجب، وما أعنيه بالمعرفة قدر تعلقها بهذا السياق ليس تراكم المعلومات، أو حتى ما تعج به الموسوعات من تفاصيل عن كل شيء في هذا الكوكب. فالفارق جذري بين معرفة تراكمية تصلح لاستعراض المعلومات، وبين معرفة رؤيوية تحيط بالعالم من مختلف زواياه، فالمعرفة التراكمية أو الكمية ينوب عنها الآن الإنترنت وسلالتها التكنولوجية، لكن المعرفة الأخرى ذات الرؤى تمتلك مفاتيح ذهبية تفتض بها الأقفال التي غمرها الصدأ من فرط الإهمال، واللامبالاة.
وقبل أن تقطع البشرية أشواطاً من أجل الكشف عن أسرار الكون، وتحليل ظواهر الطبيعة كانت الخرافات تتولى تفسير كل شيء، بدءاً من الرعد والبرق حتى البراكين والأعاصير، ولم يكن ممكناً للإنسان البدائي أن يتدارك وقوع كوارث لسبب واحد هو أنه يجهل أسبابها!
وما حدث على صعيد الطبيعة يحدث الآن على مستوى التاريخ، فمن لا يستطيعون توظيف المعرفة لتحليل ما يجري من حولهم، وتحت أقدامهم تمتلئ عيونهم بعلامات الاستفهام والتعجب، ويستغرقون في الاعتقاد بأنهم من ذوي الحظ السيئ أو أنهم ولدوا في زمن لا حول لهم ولا قوة في تغيير مسارات الحياة فيه!
وفي واقعنا العربي الملتهب والمتفجر، انقسم الناس بين لائذٍ بالخرافة أو باحث عن الحقيقة لدى قراء الطوالع والعرافين الذين يكذبون حتى لو صدقوا، وبين لائذٍ بالمنطق وبكل ما يتحكم ببوصلة التاريخ ومجراه، والفارق بين الاثنين هو كالفارق بين من يعالج مرضاً عضالاً بوصفات يلفقها المشعوذون وبين من يلجأ إلى الطب المتخصص!
إن ما يحدث رغم فظاعته ودمويته وفوضاه، ليس عسيراً على الفهم والتسبيبن وأخيراً العثور على جذوره في التاريخ والجغرافيا معاً.