مصر الظالمة نفسها
حامد الأطير
لو اجتمع العالم كله بشرقه وغربه وتفننوا في تشويه صورة المصريين والإساءة إليهم والحط من قدرهم ما استطاعوا أن يفعلوا عُشر ما يفعله المصريون في أنفسهم!
ويبدو أن القوة الناعمة في الدولة المصرية بكل مصادرها ومشتملاتها ومكوناتها الروحية والمعنوية المتجسدة في الأفكار والأخلاق والمبادئ وعبر وسائلها وأدواتها المتنوعة قد آلت على نفسها أن تقضي على كل السمات الإيجابية المميزة للشخصية المصرية وبدلاً من جذب الآخرين والتأثير الإيجابي فيهم نراها قد أحدثت النفور والإشمئزاز وربما الإحتقار والنظرة الدونية للإنسان المصري ابن الحضارة المعجزة.
إن مفهوم القوة الناعمة في أبسط صورها هو القدرة على الإقناع والتأثير والسيطرة والهيمنة على عقول وثقافات وأيدلوجيات الآخرين وتشكيل مفاهيمهم وأفضلياتهم والتغييرفي سلوكهم والتأثير في الرأي العام في الخارج من خلال القوة الروحية والمعنوية المتجسدة في الأفكار والأخلاق والمبادئ المقدمة في مجالات الثقافة والفن والعديد من القيم السياسية ويتم ذلك عبر الوسائل غير العنيفة.
ومن هذا التعريف نرى أن القوة الناعمة المصرية لا تتناغم ولا تتناسب مع هذا التعريف سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، ففي الداخل نلمس بشدة تراجع دور القوة الروحية المتمثلة في المؤسسات الدينية كالجوامع وعلى رأسهم جامع ومؤسسة الأزهر والكنائس وعلى رأسهم الكنيسة الأرثوذكسية، وتراجع دور الثقافة المصرية المتجسدة في الأدب والفن والموسيقى والدراما، وتراجع دور المؤسسات التربوية والتعليمية المتمثلة في المدارس والجامعات وتراجع دور وسائل الإعلام المتمثلة في الصحافة والمحطات الإذاعية والقنوات التليفزيونية بنوعيها الأرضي والفضائي ووسائل الميديا الحديثة، وكذلك تراجع دور القوة التاريخية والحضارية المتمثلة في تاريخ ثري وعميق وحضارة مبهرة.
كل هذه المؤسسات افتقدت الأداء الفعال وانعدم تأثيرها أو كاد ينعدم، فانحصر دور مؤسسات العبادة في أداء الشعائر والصلوات داخل جدرانها وتجمد خطابها ووعظها عند غايات ومفردات لم ينلها التغيير والتطور مما أفسح المجال للجماعات الدينية المتطرفة والمنحرفة لاستقطاب عدد لا بأس به من المصريين وليسود خطاب التشدد والتطرف وعدم التسامح والتغافر وعدم قبول الآخر.
وعن المؤسسات التربوية والتعليمية فحدث ولا حرج عن قصورها وتقصيرها، فهي لم تعد تُربي ولم تعد تُعلم، لذا تخلفت مصر عن الركب العالمي وتزيلت دول العالم من حيث جودة التعليم الذي يتم – إن تم- وفقاً للمعايير والمفاهيم المصرية لا المعايير الدولية، وترتب على ذلك ضعف المنتج التعليمي النهائي(المعلم والطبيب والمهندس والمحاسب إلخ) فقل الطلب عليه، وقد خلت المدارس من الطلاب والمعلمين وكل منهم راح يبحث عن مبتغاه خارج اسوار وفصول المدارس، الطلاب يبحثون عن العلم في المراكز التعليمية الخاصة وبيوت المعلمين لأنهم لا يتحصلون على العلم داخل المدرسة، والمعلمون راحوا يبحثون عن عائد مادي يسترهم لقلة الرواتب وضعفها عن مواجهة أعباء الحياة الضرورية وبعضهم تملكته شهوة المال فراح يسعى لتكوين ثروات وشراء الأراضي والعقارات!
ورغم أن الشباب في مصر يشكلون نسبة 62% فإن الدولة لا تُحسن إدارة واستغلال تلك الطاقة الجبارة وهذا المورد البشري الثري الذي يمكن أن يفتح لها آفاق رحبة للتنمية والتطور ويضمن لها مركز متميز عالمياً إن هي اتقنت تعليمه وتوجيهه وإكسابه مهارات العمل التي تتماشى مع متطلبات السوق العالمي ليصبح لها قوة مؤثرة.
أما الثقافة المصرية فقد انحصر دورها جبراً بحكم العولمة وثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات المتدفقة كالسيل بسرعة البرق فعجزت عن مجارة المستجدات والتأقلم مع الجديد وعجزت عن استخدام ادواته وظلت حبيسة فكرها المنغلق وأدواتها القاصرة ونتيجة ذلك لم نرى جديداً في الأدب ولا الموسيقى ولا الفن ولا الدراما! بل أن ما يجلب السخط ويثير الحنق أن هذه الروافد الثقافية (أدب وموسيقى وغناء ومسرح وسينما ودراما) أبدعت أيما إبداع في الأساءة والسخرية من القيم والأعراف والأخلاق والمثل العليا بل وسخرت وتفهت الرموز والثوابت والمقدسات الوطنية والدينية وأعلت من شأن كل القيم السلبية، فروجت للشر والعنف والتطرف والجنوح والخيانة والدعارة والتفريط في كل ما هو نبيل ووطني وتقديم كل ما هو مهين ومدمر للنيل من الشخصية المصرية والاستهزاء بها والحط من قدرها وكرامتها!
على عكس دول أخرى عظمت شعبها وأعلت من قيمها وغزت عقول الآخرين وسيطرت على وجدانهم وتحكمت في أفهامهم وتصوراتهم وأبسط مثال لهذه الدول أمريكا وتركيا فبأفلامهم ومسلسلاتهم استقطبوا عواطف شعوب كاملة وسيطروا على فكرها دون طلقة واحدة سوى بعض من طلقات القوة الناعمة الهادئة!
كما أن المؤسسات الإعلامية الحكومية الحائرة بين كونها وزارة حيناً من الوقت وهيئة حيناً آخر أصبح حالها يُرثى له لما آلت إليه من تدهور، فبعد عز وقوة وهيمنة وتأثير على الداخل وعلى الأقليم العربي والأفريقي صارت في مهب الريح فضعف أداؤها وتبدل حالها ولم تعد قادرة على تقديم رسالة إعلامية مقنعة أو مؤثرة سواء داخلياً أو خارجياً لضحالة المحتوى والمضمون ورداءة الشكل.
ينطبق الحال نفسه على المؤسسات الصحفية الحكومية التي افتقدت المهنية وتحولت إلى نشرات داخلية للوزارات والمؤسسات والهيئات الحكومية، وأمست المؤسسات الإعلامية والصحفية بعيدة كل البعد عن الحرفية والاحترافية في الإدارة لأنهم فشلوا في تحديد الاستراتيجية وتحقيق الأهداف رغم عراقة تلك المؤسسات.
والمثير للشفقة أن مصر وحتى الآن لا تملك قناة إعلامية عالمية وجريدة دولية من الفئة الممتازة أو الأولى ليشاهدها ويقرأها العالم! الغريب في الأمر أن تلك المؤسسات بها جيوش جرارة من العاملين ينوء بحملها الجبال وهي بمثابة مراكز نفقات رهيبة تبتلع جزء من الميزانية ومدينة للبنوك بمليارات الجنيهات بما لايتناسب مع أدائها الهزيل المثير للسخربة!
أما عن المكانة التاريخية والتأثير في المحيط العربي والإقليمي والعالمي فقد ضعفت نتيجة فقد العديد من عناصر القوة المؤثرة لصالح دول أخرى وعجز معها الأداء الديبلوماسي لأنه يستمد قوته من قوة الدولة رغم أن لمصر سفارات وقنصليات في دول العالم المؤثرة وغير المؤثرة! يعمل فيها عدد غفير من السفراء والقناصل والعاملين، ولازالت المحاولات جارية على أشدها لاستعادة تلك المكانة أو على الأقل استعادة معظمها.
أما ما يدعو للأسف حقاً فهو وقوف المصريون أمام حضارتهم القديمة المبهرة عاجزين فهمها وتقديرها، فإلى الآن لم يستطيعوا منحها ما تستحق من الاهتمام ومن قداسة وسمو وعلو وكأنهم ليسوا أبنائها أو كأن من بنى هذه الحضارة ليسوا جدودهم العظماء أو كأنها غريبة عنهم فعجزوا عن دراستها والاتصال بها والتواصل معها، ولم تتملكهم للآن الغيرة ليتميزوا ويتفوقوا مثلما تميز جدودهم القدماء على الدنيا كلها.
ولا نعرف شعب يملك حضارة مثل الحضارة المصرية قد ترك للأغيار والآخرين هذا الإرث العظيم من العلم والبناء والأخلاق والسمو والتفرد ليسرقونه ويستولون على آثاره المبهرة وبردياته النادرة التي تخبىء الكثير من الأسرار والإعجاز والعلوم، مصيبة أن يترك هذه الشعب صاحب الحضارة الراقية الأغيار يكتبون له تاريخه فيذكرون ويُظهرون ما يشاءون وينكرون ويخفون ما لا يرغبون.
إن الحضارة المصرية جديرة بأن يكتبها أبناؤها ويؤرخونها ويدرسونها ويسبرون أغوارها بأنفسهم، فهي أرث تاريخي وروحي وثقافي وعلمي يؤثر في الكون كله.
ويظل السؤال مطروحا والجرح مفتوحاً هل يستطيع المصريون استعادة مجدهم القديم ويصبحوا بعظمة جدودهم القدماء ويتفوقوا على العالم كما تفوق هؤلاء الأجداد؟