من القسام إلى جرار

عوني فرسخ
كان الشيخ عز الدين القسام قد شارك في ثورة الشيخ صالح العلي، ضد الانتداب الفرنسي، في منطقة العلويين السورية سنة 1920، وبعد الحكم عليه بالإعدام لجأ هو واثنان من رفاقه إلى فلسطين، واستقروا في حيفا سنة 1922، حيث انتسب لجمعية الشبان المسلمين، وانتخب رئيساً لها، واتخذها مجالاً لنشاطه السري الذي أسس حلقاته الأولى سنة 1928. وكان مؤمناً بالعروبة والإسلام، ويتصف بالفكر الثاقب والوعي السياسي، والحديث الهادئ. ولقد تمتع بقدرة خطابية ساحرة، كما تميز بمعرفة دينية عميقة، فيما أتاحت له صفته كرجل دين إمكانية التجوال الواسع، والقيام بعلاقات مباشرة مع الطبقات الفقيرة وصغار الحرفيين، والعمال والفلاحين.
وتميزت حركة القسام كيفياً عن جميع الأحزاب الفلسطينية حينها بتجذّرها في أوساط عمال وفقراء المدن ذوي الأصول الريفية؛ إذ في أوائل ثلاثينات القرن العشرين تصاعد نزوح الفلاحين للمدن الساحلية، خاصة حيفا، بحثاً عن عمل بعد طردهم من أراضي الإقطاعيين – وأغلبيتهم من عرب الجوار – التي بيعت لليهود.
ولقد واجه الشعب العربي الفلسطيني أزمة اقتصادية حادة سنة 1935، في مقدمة عواملها إطلاق حكومة الانتداب الهجرة اليهودية من دون قيود، وتشدد القيادة اليهودية باتباع سياسة «الأرض عبرية والعمل عبري»، ما أدى لتفاقم حدة بطالة العمال العرب المقتلعين من الأرض التي اعتادوا زراعتها أجيالاً متوالية.
في ذلك الجو المشحون بالغيظ والسخط والتذمر والمشاعر المكبوتة نشط الشيخ عز الدين القسام، داعياً للعدالة الاجتماعية والعمل الثوري، متجاوزاً نهج اللجان التنفيذية والأحزاب، القاصر على تقديم المذكرات لسلطة الانتداب والحكومة البريطانية، وإصدار بيانات الاحتجاج، وتنظيم المظاهرات. ويذكر أحد المصادر أن القسام راجع المفتي، باعتباره رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، كي تخصص الأموال لشراء السلاح بدل بناء المساجد وإعمارها. ويذكر أن القسام وعدداً من «عصبة المجاهدين» خرجوا للريف تحت ضغط مطاردة سلطة الانتداب وعملائها لعناصر التنظيم الذي شكله، واعتقال عدد منهم، والحكم على أحدهم بالإعدام، وبالسجن خمسة عشر عاماً على الآخرين.
وفي 1935/11/20 طوّق أحراش يعبد قرب جنين 400 شرطي إنجليزي وعربي، يصحبهم عدد من عناصر الهاجاناه. وطالبهم ضابط عربي بالاستسلام حقناً لدمائهم، فقرر الشيخ القسام وصحبه صنع أمثولة استشهادية، استنهاضاً للحراك الوطني، وتأسيساً لاعتماد القتال بالسلاح خياراً استراتيجياً في مقاومة الاستعمار والصهيونية. وعليه خاضوا معركة غير متكافئة من حيث الرجال والسلاح. فاستشهد القسام وأربعة من مرافقيه، وجرح واعتقل بعضهم، ونجح الشيخ فرحان السعدي بالإفلات من الطوق ومعه بقية المجاهدين.
وكان لاستشهاد القسام وصحبه ردة فعل جماهيرية، تمثلت بقيام القوى الوطنية والجماهير بتشييع الشهداء في موكب جنائزي مهيب في حيفا، حيث حملت نعوش الشهداء على الأكف خمسة كيلومترات، ليواروا الثرى في «بلد الشيخ»، اشتبك فيها المشيعون بالشرطة والجنود البريطانيين من دون مبالاة بالرصاص الذي انهمر عليهم، وسقوط عدد من القتلى والجرحى. ولم تأتِ أمثولة القسام وصحبه الاستشهادية التي خلدته في تاريخ فلسطين من فراغ، ولا كانت وليدة انفعال عاطفي، وإنما كانت محصلة عمل نضالي متواصل، ونتاجاً طبيعياً لواقع مأزوم، بفعل ما شهدته السنوات الست التي أعقبت هبة البراق سنة 1929 من مستجدات على الصعيدين العربي و««الإسرائيلي»».
وبعد اثنين وثمانين عاماً على أمثولة القسام الاستشهادية، قاد أحمد جرار ورفاقه من أبناء جنين وقراها معركة استشهادية مع الجيش وأجهزة الأمن ««الإسرائيلية»» في الضفة الغربية المحتلة. وفي ذلك دلالة واضحة على تواصل عطاء الشعب العربي الفلسطيني في سبيل التحرير والعودة.
وإن قراءة موضوعية لمتغيرات ومستجدات الصراع العربي- «الإسرائيلي»، خلال السنوات التالية، لمبادرة الشيخ عز الدين القسام تدل على أن الزمن خلال هذه السنوات لم يسر لصالح «الإسرائيليين» ورعاة مشروعهم من الأوروبيين والأمريكان، بقدر ما سار لصالح قوى الممانعة والتصدي في فلسطين ومحيطها القومي.
admin@afcocpa.ae