قضايا ودراسات

مهمة قومية لتحطيم رئيس

عاصم عبد الخالق

بغريزته اليقظة وليس بثقافته المحدودة يدرك ترامب المعنى الذي لخصه الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشه بعبارته «الثقة كالمزهرية حالما تنكسر لن تعود أبداً كما كانت عليه». وثقة ترامب فيمن حوله تهشمت الأسبوع الماضي عندما نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الخطاب المنسوب إلى «مسؤول كبير» في إدارته كال فيه الانتقادات بل الإهانات إليه، وكشف عن وجود ما سماه بتحالف داخل إدارته لإنقاذ الديمقراطية الأمريكية منه.
أسبوع مفعم بالقلق والألم والصدمات قضاه ترامب. لم تكد تمر ساعات على تسرب مقتطفات من الكتاب الجديد للصحفي الشهير بوب وودورد تضمنت انتقادات حادة لأسلوب عمله، حتى كانت أزمة المقال مجهول الكاتب قد تفجرت في وجهه. أكثر من عشرين كتاباً صدرت منذ الحملة الانتخابية في 2016 تفيض بالانتقادات والسخرية والتجريح في ترامب.
غير أن المقال يمثل نقلة نوعية مهمة في الأدوات التي يستخدمها ضده الإعلام الأمريكي الذي يبدو أنه بات يعتبر تحطيمه هدفاً قومياً. ومن المؤكد أن تأثير المقال على ترامب وإدارته سيختلف تماماً عن كل ما سبقه لأنه يعني ببساطة وجود طابور خامس حقيقي داخل الإدارة، هكذا يكشف الكاتب المجهول. ومن شأن ما قاله تدمير ثقة ترامب فيمن حوله من ناحية، وتدمير الثقة المتبادلة بين مساعديه ومسؤولي إدارته بعضهم البعض من ناحية أخرى. ومثل هذا المناخ غير الطبيعي المسكون بالشك لا يصلح للعمل.
سيظل ترامب مشغولاً بالبحث عن المتهم، وقد سبقته إلى تلك المهمة عشرات الصحف التي لم تتوقف عن تخمين من يكون الفاعل وحصر المشتبه بهم. حتى أن شبكة «سي إن إن» حددت 13 اسماً وكان غريباً أن يأتي بينهم زوجة ترامب وابنته. كما كان مثيراً للدهشة والشفقة أن يتسابق الوزراء وكبار المسؤولين بمن فيهم نائب الرئيس لنفي التهمة، وهو ما يوضح إلى أي حد باتت مشاعر الشك والريبة مسيطرة ومتبادلة داخل الإدارة.
نشير هنا في عجالة إلى معلومتين، الأولى أن هيئات كتاب الرأي أو المقالات الافتتاحية في الصحف الأمريكية الكبرى تكون منفصلة تماماً عن إداراتها التحريرية التي تضم الأقسام الإخبارية المختلفة والمسؤولة عن التغطيات والمتابعات المعتادة. وفي حالة «نيويورك تايمز» فإن الهيئة التحريرية المسؤولة عن المقالات والافتتاحيات (يرأسها الكاتب جيم داو) هذه الهيئة هي المسؤولة عن الخطاب المنشور ولا علم لمحرري الجريدة بكاتبه. وجرى العرف الصحفي هناك على أن تتبنى تلك الهيئة التي لا تضم سوى عدد محدود جداً من الكتاب موقفاً معلناً في الانتخابات الرئاسية بتزكية مرشح ترى أنه الأصلح.
وقد اعتبرت «نيويورك تايمز» منذ البداية أن ترامب لا يصلح للمنصب. غير أن هذا الموقف الذي تعتبره التزاماً أخلاقياً تجاه القارئ، لا يعني المساس بحياديتها أو انحياز تغطيتها الإخبارية لأي من المتنافسين، لأن القسمين التحريريين منفصلان تماماً كما أوضحنا.
الملاحظة الثانية، أن تعبير «مسؤول كبير» الذي استخدمته الصحيفة للإشارة إلى الكاتب ينطبق على المئات إن لم يكن الآلاف من العاملين في الإدارات الأمريكية عموماً، وهو ما يجعل تحديده اعتماداً على هذه الصفة شبه مستحيل.
وقد نشرت «سي إن إن» قبل أيام تقريراً أشارت فيه إلى أن الرئيس يعين 2086 مسؤولاً في الوزارات والهيئات المختلفة ينطبق عليهم وصف المسؤول الكبير أو الرفيع. هذا فضلاً عن 23 وزيراً وعشرات من نوابهم ومساعديهم، غير العاملين في البيت الأبيض، والسلكين الدبلوماسي والعسكري وكلهم مسؤولون كبار.
باختصار البحث عن الكاتب مضيعة للوقت، ولكن عدم العثور عليه سيشعل ثورة الشك داخل ترامب في كل من حوله. وإذا كان قد أدرك بغريزته حكمة نيتشه باستحالة عودة الثقة المفقودة، فهو بغريزته أيضاً يدرك حكمة أخرى للأديب الروسي العظيم أنطون تشيكوف تقول: «عليك أن تثق بالآخرين وإلا ستصبح الحياة مستحيلة».
يشك ليحمي نفسه أم يثق ليعيش ويعمل؟ إنها معضلة ترامب العصية على الحل.

assemka15@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى