موت أوروبا الغريب
تأليف: دوجلاس موراي
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
بعد رحلات من اليونان إلى أماكن أخرى في أوروبا، حيث سار واستقر فيها المهاجرون الفارون من الحروب من إفريقيا وآسيا، يصل دوجلاس موراي إلى نتيجة مفادها أن أوروبا باستقبالها اللاجئين تعلن انتحارها. إلى أي مدى يحمل هذا الكلام واقعية؟ وما حقيقة ذلك؟ هذا الكتاب يأتي في سياق وجهة نظر المحافظين الجدد تجاه المهاجرين المسلمين في أوروبا، وفيه بعض من المبالغات والعنصرية التي تخدم اليمين المتطرّف الصاعد.
يعدّ كتاب «موت أوروبا الغريب» سرداً شخصياً للغاية لقارة وثقافة في حالة انتحار كما يصفها المؤلف دوجلاس موراي، إذ يجد أن معدلات الولادة انخفضت، وازدادت الهجرة الجماعية، وتراجعت مستويات الثقة بالنفس، وترسخت الكراهية الذاتية، وهذا برأيه يجعل الأوروبيين غير قادرين على مناقشة أنفسهم ولا مقاومة التغيير الشامل الخاص بهم كمجتمع.
لا يعتبر موراي هذا الكتاب تحليلاً للواقع الديموغرافي والسياسي فقط، بل أيضاً رواية شاهد عيان لقارة تعيش في وضع التدمير الذاتي. يقدّم فيه تقارير من جميع أنحاء القارة، من الأماكن التي يهبط فيها المهاجرون إلى الأماكن التي ينتهي بهم المقام، خاصة أوروبا الغربية، ويتناول مواقف الأشخاص الذين يبدو أنهم يرحبون بالمهاجرين إلى من لا يستطيعون قبولهم.
من خلال هذا المنظور المباشر، والذي تبدو فيه النزعة اليمينية المتطرفة واضحة، يتطرق إلى ما يسميه فشل التعددية الثقافية المخيّب للآمال، وعودة أنجيلا ميركل عن قرار الهجرة المفتوحة، وعدم الترحيل إلى الوطن الأصل، والتركيز الغربي على المسؤولية والشعور بالذنب.
سافر موراي إلى عدد من المدن والدول من بينها: برلين وباريس وإسكندنافيا ولامبيدوسا واليونان للكشف عن حالة الضيق والانزعاج المتواجدة في قلب الثقافة الأوروبية، ولسماع قصص أولئك الذين وصلوا إلى أوروبا من أماكن بعيدة. وفي كل فصل، يتوقف أيضاً عند القضايا الأكبر التي تكمن وراء رغبة قاتلة في الموت لدى الشعب الأوروبي وحكوماته كما يرى، والإجابة على سؤال لماذا أي شخص، ناهيك عن حضارة كاملة، سيفعل ذلك بنفسه؟ وينتهي الكاتب فيه برؤيتين لأوروبا – واحدة متفائلة، وأخرى متشائمة – ترسم صورة لأوروبا في أزمة، وتتيح خياراً فيما يتعلق بما يمكن أن يفعله الأوروبيون في المستقبل.
عالم الأمس
يأتي الكتاب على شكل سردي في 19 فصلاً بعد المقدمة، وكل فصل يتألف من سلسلة من المقالات القصيرة التي تتناول المهاجرين من وجهة تبدو يمينية جداً للقارئ، ويمكن أن نستشعر فيها أيضاً بتضخيم الانتهاكات لبعض اللاجئين تجاه النساء والأطفال في ألمانيا وتعميمها على الآخرين، فضلاً عن ربطه الأعمال الإرهابية بموضوع المهاجرين بشكل صريح، من دون الوقوف عند الأسباب التي تدفع المهاجرين إلى النزوح عن أوطانهم بسبب الحروب التي لعبت بعض الدول الغربية دوراً سلبياً فيها.
يستشهد موراي بما دونه الكاتب النمساوي شتيفان تسفايج عن عالم الحرية المفقود في سيرته الذاتية بعنوان «عالم الأمس: ذكريات أوروبي» (1942)، والذي أقدم لاحقاً على الانتحار مع زوجته احتجاجاً على انتشار الفاشية والنازية، وانهيار السلم العالمي، لكن من دون أن يبين أن النمساوي الراحل كان ضد حصر أوروبا بالأوروبيين أو الآسيويين بآسيا وإفريقيا بالإفريقيين، إذ قال في عمله المذكور:
«قبل عام 1914، كانت الأرض تنتمي إلى الجميع. ذهب الناس إلى حيث تمنوا وبقوا فيها ما داموا راضين. لم تكن هناك تصاريح أو تأشيرات، وكان يسعدني دائماً أن أذهل الشباب عندما أخبرهم أنه قبل عام 1914 سافرت إلى الهند وإلى أمريكا بدون جواز سفر، ودون أن أرى أحدهم. كان يمضي أحدنا في طريقه من دون استجواب أو سؤال… والحدود التي يتواجد فيها ضباط الجمارك والشرطة والميليشيات، أصبحت حواجز سلكية بفضل الشك المرضي لدى الجميع ضد الجميع، لم تكن هناك سوى خطوط رمزية يتخطاها أحدنا مع قليل من التفكير مثلما يعبر شخص خط جرينتش… أنا مخلوق ممزق في عصر الحرية ومواطن في الجمهورية العالمية لأحلامي، أعتبر كل ختم في جواز سفري وصمة عار…». إلا أن الكاتب نفسه يرفض هذه الفكرة عندما يتطرق إلى تنقل الناس بسبب الحروب، متناسياً أن المهاجرين لا يرحلون من بلادهم إلى أوروبا بشكل طوعي، بل بسبب التنظيمات الإرهابية والظروف القاسية جراء الحروب.
وفي معرض مناقشة رد الفعل العام على أزمة المهاجرين، يعبر عن خوفه من المدّ الإسلامي عبر المهاجرين الوافدين للقارة العجوز، ويكتب: «إن ما شاهده أو ذكره قلة قليلة من الناس هو أن الخلفية العرقية للذين يعيشون هنا كانت مسألة غير مهمة إلى جانب قضية العقيدة الأوسع نطاقاً». أهم هذه الحقائق عن الأزمة، يؤكد موراي مراراً وتكراراً، أنها تنطوي على مواجهة الإسلام بأوروبا مفككة وكافرة. وستكون النتيجة أسلمة القارة ونهاية الحضارة الأوروبية. ويستشهد أيضاً بعمل الروائي الفرنسي ميشيل هويلكبيك بإعجاب، ويعلق: أنه عندما يتحول بطل الرواية إلى الإسلام في النهاية، «سيصبح جزءاً من مجتمع المعنى لأول مرة… منطق الإسلام عملي، وفي مجتمع مستعد للخضوع، لا يمكن دحضه.
هل أوروبا تنتحر؟
يضع موراي قضيتين متزامنتين أمامه في هذا العمل. الأولى هي «النزوح الجماعي للشعوب إلى أوروبا بعد الحرب، مما يجعلها «موطناً للعالم بأسره». والثانية هي «الطريقة التي فقدت بها أوروبا الإيمان في معتقداتها وتقاليدها وشرعيتها».
يعلن موراي بكل بساطة أن «أوروبا تنتحر أو على الأقل قررت قياداتها أن تنتحر. أما إذا اختار الأوروبيون المضي في هذا الأمر، بشكل طبيعي، فهذه مسألة أخرى»، كما يقول ويضيف: «عندما أقول إن أوروبا تعيش في عملية تقتل فيها نفسها لا أقصد أن عبء لائحة المفوضية الأوروبية أصبح مسيطراً أو أن الاتفاقية الأوروبية الخاصة بحقوق الإنسان لم تكتمل بما يكفي لإرضاء طلبات مجتمع معين. أقصد أن الحضارة التي نعرفها كأوروبا تسير في عملية الإقدام على الانتحار، وأنه لا بريطانيا ولا أي دولة في أوروبا الغربية يمكن لها أن تتجنب ذلك المصير، لأننا جميعاً نبدو أننا نعاني من ذات الأعراض والعلل. ونتيجة لذلك، مع نهاية دورات الحياة لمعظم الناس الأحياء حالياً، فإن أوروبا لن تكون أوروبا، وشعوب أوروبا سوف تفقد المكان الوحيد الذي توجّب علينا أن نطلق عليه اسم الوطن».
ويقول موراي: «العالم قادم إلى أوروبا في اللحظة التي فقدت فيها أوروبا رؤية عما تكون عليه». «وفي الوقت الذي تكون فيه حركة ملايين الناس من الثقافات الأخرى إلى ثقافة قوية وحازمة قد تكون ناجعة، فإن حركة ملايين البشر إلى ثقافة مذنبة، متهالكة، ومحتضرة لا يمكن أن تحدث».
يستعرض موراي تاريخ الهجرة، مبرزاً مقدار ما تم الاستهانة به من قِبل الحكومات، ومدى ضآلة النقاش العام الجاد، حتى عندما كشف إحصاء 2011 – على سبيل المثال – عن التغيرات الهائلة التي حدثت في لندن على وجه الخصوص.
كما يتتبع الطريقة التي برزت بها أحزاب جديدة عبر أوروبا لتمثيل الرأي العام بحيث تم تجاهلها من قبل الأحزاب السائدة. وفي تعزيز الكاتب للخطاب اليميني المتطرف يشير إلى أنه في عام 2010، قال 47 في المئة من الألمان: إنهم لا يعتقدون أن الإسلام ينتمي إلى ألمانيا. وبحلول عام 2015، أصبح هذا الرقم 60 في المئة. الآن يبدو الرقم أعلى مرة أخرى كما يذكر بطريقة متوجسة. ويعلق: «أوروبا لديها رغبة ضئيلة في إنتاج نفسها، والقتال لأجل نفسها أو أن تأخذ موقفاً خاصاً بها في نقاش ما. يبدو أن هؤلاء الذين في السلطة مقتنعون بأنه لا يهم إذا ما كان شعب وثقافة أوروبا في حكم الفقدان بالنسبة للعالم».
بين فشل ونجاح السياسيين
يوماً بعد الآخر، قارة أوروبا لا تتغير فقط، بل تفقد أي إمكانية للاستقرار السلس استجابة لمثل هذا التغير الديموغرافي كما يرى الكاتب. في رأيه: «فشلت طبقة سياسية بالكامل في تقدير أن العديد من الذين يعيشون في أوروبا يحبون أوروبا التي كانت لنا. لا نريد سياسيينا في حالة من الضعف، والحقد على الذات، والتوعّك، والتعب أو تغيير موطننا إلى مكان مختلف بالكامل. وفي الوقت الذي يبدو فيه الأوروبيون متعاطفين بشكل لا نهائي تقريباً، ربما نصبح بلا حدود كذلك. ربما يريد العامة العديد من الأشياء المتناقضة، لكنهم لن يغفروا للسياسيين – سواء بالصدفة أو عن قصد – إذا ما غيروا وجه قارتنا بالكامل. إذا ما قاموا بذلك التغيير، حينها سوف يندم العديد منا على هذا بشكل هادئ. وسيندم آخرون على هذا بشكل أقل هدوءاً».
ويذكر: «لا يزال هناك بعض الناس الذين يحاولون ادعاء أن ما نمر به، وكل ما سنمرّ به في السنوات المقبلة، هو أمر طبيعي أو أنه لن يستمرّ». ويشير إلى أن مركز «بيو» للأبحاث نشر دراسة جديدة صادمة تدافع عما ورد من آراء في هذا الكتاب، وأضافت تحذيراً لكل من يتعاطى مع الأمر. أظهرت الدراسة – التي يوليها الكاتب أهمية قصوى – المدى الذي وصل إليه السكان المسلمون في أوروبا، نتيجة للتزايد حتى من دون ارتفاع هائل في الهجرة التي حدثت في السنوات الأخيرة. كما أظهرت الدراسة أنه في سيناريوهات أخرى ستزداد لدى بعض الدول مثل السويد (8 بالمئة من سكانها مسلمون بحسب إحصاء 2016) أعداد المسلمين بما يصل إلى 11 بالمئة من السكان بحلول 2050 إذا لم يكن هناك هجرة على الإطلاق، و21 بالمئة إذا كان هناك تدفق «منتظم» للمهاجرين المسلمين، و31 بالمئة إذا ما بقيت الهجرة الأخيرة في حالة صعود. حتى أنه يستشهد بما أوردته جريدة «الجارديان» البريطانية في أحد تقاريرها المعنونة ب«السكان المسلمون في بعض الدول الأوروبية قد يتضاعفون ثلاث مرات»، وهو ما يرى الكاتب أن الأمر يشكل صدمة للقراء.
مواجهة الموت الغريب
سوف يستمر الخط بين الهجرة الشرعية وغير الشرعية بالدخول في حالة من الضبابية على نحو أكثر، هذا ما يراه موراي. ويجد بناء على ذلك: «مع مرور كل يوم، سوف يصبح من الصعب للغاية إيجاد كمية كبيرة كافية من السكان معارضة للهجرة الجماعية لأجل الدفع بسياسة من شأنها أن تعكس أو على الأقل أن تمنع استمرارها. ومع مرور الوقت، خلال القرن الحاضر، في المدن الكبيرة أولاً، ثم عبر الدول بأكملها، سوف تصبح مجتمعاتنا في نهاية المطاف «دول المهاجرين» التي ادعينا لفترة أنها كانت لنا».
ويضيف: «السياسيون الراغبون في الجدل ضد مثل هذا الموقف المتناقض سوف يتم ردعهم بالسعر الفريد الذي يجب عليهم دفعه لتحقيق نجاح في قضيتهم. في هولندا، والدنمارك، والدول الأخرى عبر أوروبا، السياسيون الذين يعترضون الهجرة الجماعية- وتدفق مجتمعات محددة على نحو خاص – يعيشون في حالة من حماية الشرطة الدائمة، ويغيّرون مواعيد نومهم أغلب الليالي وبعض الأحيان يعيشون في القواعد العسكرية».
وعن إيقاف هذا الموت الغريب لأوروبا، والتخلص من آثار الهجرة، يلخص الكاتب الحلّ في حوار له مع «ناشينال بابليك راديو» قائلاً: الحل واضح جداً. وهو أولاً أن نبطئ التدفق. لا أقول منع المهاجرين إلى أوروبا. أنا لا أقول ذلك على الإطلاق. لكن علينا أن نبطئ التدفق بشكل كبير، لأن المجتمع ليس لديه أمل في البقاء متماسكاً عندما يكون لدينا هجرة بهذه المستويات. الشيء الثاني هو أن نعمل أكثر على شؤون الأشخاص المتواجدين هنا سابقاً. الشيء الثالث، هو أن نوضح أنه بالإضافة إلى التحدث بلغة الإدماج في سياساتنا، يجب أن نتحدث بلغة الاستبعاد.
ويختم كلامه: «هناك مجموعة كاملة من الأشياء الأخرى. أحدها أساسي جداً، وهو محاولة التغاضي عما أشخّصه، من بين أمور أخرى، وهي عقدة الذنب التي تعاني منها أوروبا. أنا لا أدافع عن أننا يجب أن نصبح قوميين وطنيين. علينا إيجاد توازن هنا. ويجب التوصل إلى أحد هذه التوازنات من خلال إدراك حقيقة بسيطة للغاية، وهي أن أوروبا لا يمكن أن تكون موطناً لكل شخص في العالم يرغب في الرحيل عن وطنه».
نبذة عن الكاتب
**دوجلاس كير موراي (ولد في يوليو/تموز 1979) كاتب بريطاني وصحفي ومعلق سياسي. وهو مؤسس مركز التماسك الاجتماعي، وهو المدير المساعد لجمعية هنري جاكسون، ومحرر مشارك في المجلة السياسية والثقافية البريطانية «ذا سبيكتاتور». يكتب موراي لعدد من المنشورات، وهو مؤلف عدد من الكتب منها: «المحافظون الجدد: لماذا نحتاجهم؟» (2005). يظهر موراي بانتظام في وسائل الإعلام البريطانية، معلقاً على قضايا تشمل حرية الكلام، والهجرة، وحقوق المثليين من وجهة نظر المحافظين الجدد.