غير مصنفة

موجابي: أَنا الدولَة!

كمال الجزولي

أخيراً، بعد الكثير من المطل والمساومة، رغم تدخُّل الجَّيش، وحزب «زانو» الحاكم، وقادة الدُّول المجاورة، والجماهير التي خرجت بالآلاف تطالبه بالرَّحيل، وبعد أن نفد الصَّبر، وبلغت الرُّوح الحلقوم، وعقد البرلمان جلسة مخصوصة لإقالته، قدَّم موجابي استقالته، زاعماً أنه يريد أن يجعل انتقال السُّلطة سلساً (!) وهو قول غير صحيح، فقد ظلَّ يعصلج، مثل مقامر محترف، مشترطاً أن يُمنح، هو وبعلته غريس، حصانة من المساءلة!
بإعلان استقالته غمر الفرح زيمبابوي، مساء 21 نوفمبر الجَّاري، لزوال هذا الغمِّ، فلكأنَّ نفس هذا البلد ما كان قد سعد يوم تبوَّأ نفس الرَّجل رئاسته عام 1980م، باعتباره البطل الذي تصدَّى لقيادة معركة الاستقلال! فكيف تستقيم هذه المفارقة؟!
السُّلطة قوَّة معنويَّة قد تنحرف بتفكير البعض وسلوكهم عن جادَّة الاعتدال عقليَّاً ونفسيَّاً. جرِّب، مثلاً، أن تستدعي من ذاكرة ما بين القرنين 17 18، صورة لويس الرَّابع عشر، الخائض نزاعات لا تنتهي، وحروباً لا تضع أوزارها، المحبِّ للأعياد الباذخة، والاحتفالات المترفة، في دولة تعاني الإفلاس، والانهيار الاقتصادي، حيث فشل كلُّ وزراء ماليته في توفير ما يلزمه من الأموال، ولا حتَّى بزيادة الإنتاج والتَّصدير، رغم أنه حكم لأطول فترة في التَّاريخ الأوروبِّي، المستبدِّ الذي لخَّص فلسفته في الحكم الإلهي المطلق بكلمته الشَّهيرة «أنا الدَّولة والدَّولة أنا L'état, c'est moi»! فإن جرَّبت فسترى أبرز ملوك البوربون مجسَّداً في صورة موجابي، المتشبِّب، المغرور، وهو في عمر يقارب اكتمال القرن، يتوهَّم أن الموت نفسه لن يقتلعه من أعلى سنام الرِّئاسة، حيث ظلَّ مغروساً هناك، كمسمار صدئ، زهاء الأربعة عقود، حتَّى لم يعُد يتصوَّر «الدَّولة» ممكنة بدونه!
ولا تسل عن الفروق بين الرَّجلين، فهي كذرَّات رمل الصَّحارى، حيث ارتقى لويس بفرنسا، ثقافيَّاً على الأقل، من دولة متخلفة، إلى قمة النفوذ العالمي؛ بينما انحطَّ موجابي بزيمبابوي من منتجة للمحاصيل، وجاذبة للاستثمارات، وحاضنة للمهارات، إلى بلد طارد، هرب منه إلى جنوب إفريقيا مليون مهاجر؛ بلد تطحنه الفاقة والفساد، ويزداد الفقر فيه بنسبة 15% مقارنة بالثَّمانينات، ويتفاقم التَّضخُّم فيه بمعدَّلات فلكيَّة، ويرتفع دينه الخارجي بنسب خرافيَّة، وتبلغ البطالة فيه94%، وتجتاحه الأوبئة والأمراض الخطيرة، كالإيدز والكوليرا، بينما الدَّولة عاجزة عن توفير أبسط الخدمات الصِّحِّيَّة.
أمَّا أكبر محن هذا البلد المنكوب فهي غريس، أوَّل من هربت من السَّفينة الموشكة على الغرق، تاركة العجوز يواجه مصيره وحده، عقيلة أكبر الرُّؤساء سنَّاً، والتي تصغره بنصف قرن، وجعلته يمهِّد لخلافتها له، حتف أنف التَّاريخ، والسِّياسة، والشَّعب، بإقالة نائبه، ورفيق كفاحه التَّحرُّري القديم، منانغاغوا، وتعيين مفوكو الموالي لغريس في محله، في خطوة مفضوحة اعتبرت الأخطر، حيث أفضت، بعد أسبوع واحد فقط، لأن يدفع قائد الجَّيش، شيوينغا، بدبَّاباته، في 15 نوفمبر الجَّاري، لاحتلال الإذاعة، والبرلمان، والمحكمة العليا، ومقرِّ الحزب الحاكم، ووضع موجابي قيد الإقامة الجبريَّة، في «عمليَّة» ظلَّ يعلن أنها ليست «انقلاباً»، وإنَّما «وسيلة» لإزالة المجرمين من حول الرَّئيس!
كانت محاولة موجابي رفع غريس إلى كرسيِّه بمثابة القشَّة التي قصمت ظهر بعيره! فهي سيِّدة بلا تاريخ نضالي، ولم يحملها إلى عضويَّة المكتب السِّياسي لحزب «زانو»، ولا رئاسة تنظيمه النِّسائي، سوى زواجها، عام 1996م، بموجابي الذي تعرَّف إليها كموظفة في البيت الرِّئاسي. وظلَّت أقصى مواهبها جولات التَّسوُّق الباذخ، وترتيب الحفلات الفخمة التي درجت، أثناءها، على المبالغة في تملق الزَّعيم العاشق، كالحفل الذي أقامته عام 2014م، ودعت الجَّماهير، خلاله، للمواظبة على إعادة انتخابه حتى لو مات وصار جثة هامدة (!) وكذلك احتفالها بعيد ميلاده الثَّاني والتسعين، والذي كلف، العام الماضي، مليون دولار، في بلد يتلقى المعونات، ويكاد يقتل إنسانه الجُّوع والعطش والمرض!
مواطنو زيمبابوي يلقِّبونها ب «غوتشي غرايس»، إيماءً إلى الماركة التِّجاريَّة GUCCI، وكناية عن ولعها بالحصول على أغلى المقتنيات؛ ويتداولون في ذلك قصصاً عجيبة، كإنفاقها، خلال ساعات، أثناء رحلة تسوُّق بباريس، مبلغ 120 ألف دولار أمريكي، وسحبها من البنك المركزي، مطالع التِّسعينات، أكثر من 6 ملايين دولار أمريكي، وامتلاكها قصرين مبهظين، باعت القذَّافي أحدهما، بينما كلفها الآخر 26 مليون دولار أمريكي. وفي 2010م أظهرتها تسريبات «ويكيليكس» كمتَّهمة بتجارة الماس غير المشروعة!
لكن كلَّ هذا كوم، وقصَّة حصولها على الدُّكتوراه في علم الاجتماع، من جامعة زيمبابوي، عام 2014م، كوم آخر، حيث تظلُّ القصَّة الأكثر طرافة، وإثارة للسُّخرية، فقد حصلت السَّيِّدة الأولى على الشَّهادة الرَّفيعة، بعد شهرين، فقط، من التَّسجيل.. دون أن يرى أحد أطروحتها!
وفي الرَّابع من أكتوبر المنصرم قُبض على الصَّحفي كنيث نيانجاني لإيراده خبراً اعتُبر «مسيئاً» لها، حول تبرُّعها بكمِّيَّات من ملابسها الدَّاخليَّة المستعملة لعضوات «رابطة المرأة بحزب زانو» التي تترأسها! وزيمبابوي، بالمناسبة، تشغل المركز/128 ضمن قائمة «صحفيون بلا حدود» لمؤشر حريَّة الصَّحافة العالمي للعام 2017م، وتضمُّ 180 دولة. ووصفت المنظمة الوضع في زيمبابوي بأنه.. «قمعي»!

kgizouli@gmail.comOriginal Article

زر الذهاب إلى الأعلى